هدف الحوار وطن للجميع
باستثناء المتمترسين، كل من موقعه، بروائح الدم والفساد والشحن الطائفي البغيض أو الاستقواء بالخارج، لم يعد هناك في سورية من خلاف واسع حول أن تعقيدات اللحظة الراهنة في البلاد باتت تستدعي بالضرورة قيام طاولة حوار وطني شامل مستديرة، تتولى صياغة حل توافقي شامل بين كل أطراف النسيج السياسي والاجتماعي والحراك الشعبي السوري بوصفه المخرج الوحيد، الآمن نسبياً، أمام سورية دولة وشعباً، ويأخذ في حسبانه الإقرار بوجود واقع جديد، ما يقتضي إعادة تشكيل الفضاء السياسي في البلاد وبنيته الاقتصادية.
وإذا كان اللقاء التشاوري للحوار المزمع عقده في العاشر من الشهر الجاري، سيتولى البحث عن مرتكزات الحوار الوطني الشامل وآلياته، فإنه لا يتعدى كونه نقطة الانطلاق في مسار وضع الرسمة الجديدة لسورية، الواحدة الموحدة، بحكم التغييرات الكبيرة في البنى وتناسبات القوى التي أحدثتها الاستحقاقات المتراكمة، التي وجدت تعبيرات مختلفة في تفجر الاستياء منها وأشكال الرد على هذا التفجر، ليصبح الخروج من هذا المطب الموسوم بالدم والكبح وسوء التقدير واستعراض العضلات ضرورة وطنية لا يستقيم ادعاء إنجازها من طرف واحد.
يقول المنطق إن الحوار وسيلة وليس غاية بحد ذاتها، وهو في كل الأحوال وضمن الظروف العصيبة التي تمر بها سورية، وما تستدعيه من مسؤوليات وطنية عليا، لا ينبغي النظر إلى إطلاقه أو الانضمام إليه من حيث المبدأ كمنّة أو تنازل، رغم أنه في سياقه كعملية صراعية وتفاعلية، سلمية وحضارية، يتضمن تنازلات بغية الوصول إلى توافقات تكون ملزمة لأصحابها بمقدار توافقهم عليها وليس على الحوار بحد ذاته في مربعاته الأولى.
فالحوار الواعي والمسؤول بين رأيين مثلاً يفترض به صياغة رأي ثالث هو أكثر تقدماً وقوة من أي منهما منفرداً، وإلا فما الغاية منه؟
ولكن إنجاح ذلك، وتحديداً ضمن إحداثيات المشهد السوري اليوم، يتطلب توافقاً مسبقاً بين الأطراف المتحاورة بمن تمثله (نظام، معارضة، أحزاب، أجهزة سلطة، شارع، حراك شعبي بأشكاله المختلفة، التظاهر والاحتجاج والرأي والمسيرات) حول ضرورة تأمين المناخ المناسب لقيام الحوار واستمراره والوصول إلى غاياته المنشودة، ما يعني وقف إراقة الدماء ومحاسبة مرتكبيها من أي جهة كانت، ووقف الاعتقالات لغير المسلحين المثبتين والتوقف عن إغلاق المدن والأحياء السكنية ونبذ العنف والتخريب والتطاول على الجيش، وكذلك التبرؤ من أي مخربين محتملين للنسيج الوطني، مهما كانت أدواتهم وأينما كانت مواقعهم الواضحة أو التمويهية.
بموازاة ذلك ينبغي الإقرار أن سورية في تموز 2011 وفي حال تعهد مختلف الأطراف بضمان توفير هذا المناخ، لا تزال في بداية طريق رسم صورتها المستقبلية، وهي طريق تبدأ من الاعتراف بالآخر المختلف سياسياً ومطلبياً، والإسراع بترميم أي ضرر لحق بالنسيج الاجتماعي السوري المتلاقح عبر التاريخ بغنى مكوناته وشرائحه وعيشه ومصيره المشترك.
بناءً عليه، وإذا كان من البدهي القول إن الوطن للجميع، ولا يحق لأحد المساس بهذه البديهية، فإنه في دولة المواطنة والحقوق والواجبات المتساوية بين الأفراد وتحديداً أمام القانون، لا أحد يملك الوطن وتفصيله على مقاسه وحق النطق باسمه حصرياً، مثلما لا أحد يملك حق قمع شخص يريد أن يخرج ليعبر عن رأيه أو كرامته أو دفاعه عن لقمة عيشه في وجه سارقيها.
وهنا مربط الفرس، فمثلما قد لا يعني لعامة الناس في صفوف المتظاهرين حقيقة وضع النظام لحزمة إصلاحاته السياسية في المقدمة، كون ذلك لا يعني الكثير لهم بحكم تجربتهم السابقة التي مهدت لاحتجاجهم، خلافاً للسياسيين الذين يدركون أهمية ذلك بعقل بارد، فإن السؤال الأهم هو: أي إصلاح اقتصادي سيعكسه ذاك الإصلاح السياسي؟ أو أية تغييرات في الحوامل الاقتصادية الاجتماعية ستجري لحماية الوحدة الوطنية السورية بعيداً عن المنزلقات غير الوطنية البغيضة، والتي يدفع المستفيدون من استمرار منظومة الفساد في البلاد باتجاهها، شأنهم في ذلك شأن كل القوى الرافضة للحوار أو المعرقلة إياه؟.
إن معظم الأحداث الحالية تشير إلى ضرورة الإعلان الرسمي عن موت السياسات الاقتصادية الليبرالية التدميرية التي تم اتباعها خلال السنوات السابقة، لأنه بغير ذلك ستبقى ردود الأفعال شعبياً وما تلاقيه من معالجات أمنية أو احتوائية في أطوار غير منتهية وغير آمنة من المد والجزر.
إن تلك السياسات الاقتصادية رغم إطارها السوري، هي تعبير عن ميزان عالمي محدد للقوى، أي أنها منعكس للخارج على الداخل، وإن الانتفاض في وجهها ورفضها شعبياً هو رد فعل طبيعي ومباشر بالمعنى الوطني.
وثمة سؤال بدهي آخر يطرح نفسه: ماذا عن طيف المتحاورين؟
من دون الانزلاق إلى درك من يعطون أنفسهم حق منح أو سحب «شهادات بالوطنية»، فإن هذا الطيف ينبغي أن يشمل كل الأطراف والشخصيات والقوى والتيارات الوطنية في «الموالاة» و«المعارضة» «من غير المشبوهين وطنياً»، أي أولئك الملتزمين بالمسلمات الوطنية التاريخية أو المستجدة، أي التمسك بالوحدة الوطنية ومحاربة الشحن الطائفي والاستقواء بالخارج، وثبات ووضوح الموقف الوطني من الكيان الإسرائيلي وسياسات ومشاريع الهيمنة الأمريكية الصهيونية، والتمسك بكل أشكال مقاومتها حتى تحرير الأرض وعودة الحقوق، وكذلك الدفاع عن الحراك الشعبي بطابعه السلمي بوصفه ضمانة لبنية الإصلاحات «الشاملة والجذرية والذكية والمرنة». وهؤلاء هم شخصيات غير ملوثة بالفساد والتخريب أو ملطخة أيديهم بالدماء وسواء من النظام أم من الأحزاب والتيارات السياسية القائمة- الموالية أم المعارضة- والتي لم تعد تمثل كل الطيف السياسي السوري اليوم، بمعنى ضرورة أن يشترك على قدم المساواة في الحوار المنشود ممثلون عن الحركة الشعبية ضمن المسلمات الوطنية ذاتها.
إن علانية الحوار وشفافيته ونقله مباشرة إعلامياً، هو مؤشر أولي إيجابي كما أكدنا سابقاً، وهو كفيل بإبراز الأحجام الحقيقية للقوى، وكذلك تناسباتها المستجدة والجدية الوطنية في نواياها ومواقفها، وهو ما لا يخيف أو يرهب أياً من المخلصين من أبناء سورية.
إن نجاح الحوار الوطني في لقاءاته التشاورية أو الشاملة مرهون بعلاج هذه المسائل وتقديم إجابات مقنعة للسوريين من كل الأطراف المعنية.
وبين هذا وذاك يبقى واهماً ومداناً في نهاية المطاف كل من يعتقد بإمكانية إعادة حكم السوريين بالمنظومات والأشكال والآليات السابقة، ومسيء ومدان كل من يريد قذف سورية نحو الفوضى الأمريكية غير الخلاقة.
بين الوهم والإساءة علاقة استحالة وإمكانية، كلما أدرك الواهمون حقيقة وهمهم أصبح الضغط أكبر باتجاه عزل المسيئين، والعكس صحيح.