الافتتاحية جهل أم تضليل؟!
لو بذل المسؤولون الاقتصاديون الجهد نفسه الذي يبذلونه على رفع الدعم باتجاه رفع الأجور وإيجاد موارد حقيقية لها، لكنا بألف خير..
وقد ساهموا مع بعض من سبقهم بخلق مناخ تضليلي فحواه أن رفع الأجور سيؤدي حتماً إلى ارتفاعات في الأسعار، مع أن الحقيقة والواقع يقولان إن ارتفاعات الأسعار مع ثبات الأجور اسمياً، ستؤدي إلى انخفاض الأجور فعلياً..
وآخر ما أتحفونا به أن متوسط دخل الفرد في سورية هو (26000 ل.س) ستة وعشرون ألف ليرة سورية. وفي هذا القول جهل أو تضليل...
والحقيقة أن حصة الفرد من الدخل الوطني هي وسطياً ذلك المبلغ.. ولكن ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه إذا جمعنا حصص المليونيرية والمليارديرية مع حصص أصحاب الرواتب والأجور، وقسمناها على عددهم جميعاً، لكان الرقم هو (26000 ل.س)، والسؤال الأهم هو أين يذهب الفارق بين (7000 ل.س) سبعة آلاف ليرة سورية التي هي متوسط الأجر في البلاد، وبين (26000 ألف ل.س) والذي هو (19000 ل.س)؟! إنه يذهب لجيوب أصحاب الأرباح وخاصة الكبيرة منها، أي أنهم يحصلون من كل صاحب أجر على 73% من حصته النظرية من الدخل الوطني شهرياً. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن أصحاب الأجور ومن بحكمهم يمثلون 90% من الشعب السوري على الأقل، وأن أصحاب الأرباح هم البقية الباقية على الأكثر، لتبين لنا مدى الاستقطاب الحاصل في توزيع الثروة الوطنية الذي يؤدي إلى عدم عدالة فاحشة في هذا المجال.
لقد تعلم أصحاب الأجور نتيجة تجاربهم المُرّة السابقة، أن كل رفع للأجور كان يؤدي إلى ارتفاع في الأسعار، وبالتالي إلى انخفاض أجرهم الفعلي، مع أنه يكون قد ازداد اسمياً، وتكوَّن لديهم رد فعل طبيعي بالتخوف من أية زيادة في الأجور. فتصوروا إلى أين أوصلتنا السياسات الاقتصادية الخرقاء!؟
ومع الأسف الشديد، تتكرر اليوم النغمة نفسها، وهي إن تكلم بها بعض غير المختصين لتفهمنا الأمر، ولكن أن يؤكد ذلك بعض أولي التخصص فهذا أمر كبير!.
فهل قُدّر لنا أن تسير ارتفاعات الأجور المحتملة مع ارتفاعات في الأسعار؟ أم أن هنالك مخرجاً آخر لهذه المعادلة؟
والحقيقة أن القضية تكمن في نهاية المطاف في موضوع واحد لا غير، وهو: من أين ستأتي موارد الزيادة المفترضة في الأجور؟ فإذا أتت من زيادات محتملة في الأسعار تخطط لها الدولة، فأمر طبيعي أن تترافق زيادات الأجور مع زيادات الأسعار، تأكلها وتلغي الفائدة منها.
ولكن إن أتت موارد الزيادة من مصادر حقيقية، عند ذلك يمكن كسر الحلقة المفرغة بين زيادات الأجور وارتفاع الأسعار.
والمصادر الحقيقية هي من نوعين:
الأول: هو حصة الأرباح نفسها من الدخل الوطني، والتي إن اقتطع جزءٌ منها بسياسة ضريبة فعالة لأمكن تمويل الزيادة في الأجور، وإعادة التوازن ولو جزئياً للعلاقة بين الأجور والأرباح والتي هي اليوم حوالي 20% أجور، 80% أرباح.
الثاني: هو الزيادة الحقيقية في الكتلة السلعية التي تتطلب زيادة في الإنتاج المادي، وهو الأمر الذي تتراجع فيه الدولة، نتيجة التراجع العام في الاستثمارات الإنتاجية والذي يجري بشكل مخطط له منها.
والواضح أن المصدر الأول للزيادة في الأجور هو مصدر ممكن التحقيق على المدى القصير في حال توفرت الإرادة لذلك، أما المصدر الثاني، فهو أيضاً ممكن التحقيق لكن على المدى المتوسط والبعيد، ويتطلب إلى جانب الإرادة، الكفاءة والإخلاص للقضية الوطنية، كما يتطلب تغييراً جذرياً في السياسات الاقتصادية المتبعة والتي ما زال الفريق الاقتصادي يصر عليها، مع أن الحياة أثبتت فشلها، إلى جانب الإجماع الشعبي على رفضها.
لذلك يجب الإصرار اليوم ليس على أية زيادة في الأجور، بل على تلك الزيادة التي يجب أن تجري على حساب الأرباح، مما سيؤمن الأرضية الملائمة لانطلاق اقتصادنا ونموه لصالح المجتمع، كي يصبح اقتصاداً مقاوماً بحق، منسجماً مع الإرادة السياسية التي تعبر عنها سورية والتي تلقى الإعجاب لدى الشعوب العربية والعالم بأجمعه، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..