الافتتاحية الثنائية الحقيقية: إمبريالية - شعوب!
تصرفت الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كدولة منتصرة، وأن «لها الحق» في إعادة صياغة النظام الدولي الجديد وتحديد قواعد السلوك فيه، عبر تحطيم المنافسين وتهميش المؤسسات الدولية، واستغلال عملية تفجير البرجين (المشكوك في أمرها) لتطبيق مشروعها الإمبراطوري تحت غطاء الحرب على الإرهاب.
بدأت السلسلة من أفغانستان ثم العراق، وكانت واشنطن تجاهر بأنها ستكمل على بقية دول المنطقة، لولا المقاومات في فلسطين ولبنان والعراق وممانعة سورية وإيران. ولأن نظرية «الأحادية القطبية» وهم يتعارض مع حقائق التاريخ الموضوعية، بدأ المشروع الإمبراطوري الأمريكي يتعثر بشكل أسرع بكثير من رهانات المتفائلين به من ليبراليين جدد ومن دول «الاعتلال» العربي،وحتى من أولئك المنظرين المهزومين الذين غادروا متراس اليسار فعلياً، وحافظوا على التسمية قولاً ليس إلا.
واللافت هنا أن تعثر المشروع الأمريكي- الصهيوني في المنطقة الذي تم بفعل الإرادة السياسية للمقاومة والمواجهة كما شهدت على ذلك انتصارات حرب تموز 2006 في لبنان، قد ترافق مع وضوح مؤشرات تهاوي الاقتصاد الرأسمالي العالمي وازدياد عمق الأزمة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة نفسها، وكل ذلك جعل العديد من شعوب وبلدان العالم تبتعد عن الليبرالية المتوحشة وأدواتها الثلاث: البنك الدولي، وصندوق النقد، ومنظمة التجارة العالمية. ولعل الاستنتاج الأهم في هذا السياق هو وضوح الانعطاف الجاري في ميزان القوى العالمي لصالح الشعوب بعكس الحالة المؤقتة التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا يثبت بدوره أن الثنائية الحقيقية في عالمنا المعاصر هي؛ إمبريالية- شعوب. وهذا ما يفسر فشل السياسات الأمريكية في أهم مناطق العالم المستهدفة بالتفتيت من باكستان وأفغانستان مروراً بالعراق وإيران ولبنان وسورية، وصولاً إلى أمريكا اللاتينية.
.. وفي هذا السياق جاء الصدام الروسي- الأمريكي ليثبت أن تعثر المشروع الأمريكي في العراق وجواره عموماً لن يمنع الأطلسيين الجدد من توسيع رقعة الحرب ودائرتها إلى مناطق أبعد، وخصوصاً باتجاه روسيا تدريجياً من دائرتي آسيا الوسطى ومنطقة القفقاس. ولأن للأحداث منطقها الذي لا يمكن التحكم به أحياناً، فإن الحماقة والمغامرة الأمريكية في القفقاس خلقت وضعاً متفجراً لن تخرج منه الولايات المتحدة إلا خالية الوفاض. وقد قالها الأدميرال بالتين: «إن الدخول إلى البحر الأسود مصيدة سهلة، لكن الخروج منه لا يمكن أن يتم دون عقاب».
وفي مثل هذا الوضع الدولي لا يوجد أمامنا مجال مناسب للصمود وحسب، بل أمامنا فرصة تاريخية لإلحاق الهزيمة بالعدو الإمبريالي- الصهيوني، وتحرير أراضينا المحتلة عبر تطوير إرادة المواجهة والتزام خيار المقاومة وتعبئة قوى المجتمع على الأرض عبر الابتعاد عن السياسات الاقتصادية الليبرالية التي ينفذها الفريق الاقتصادي، تلك السياسات التي لم تأت على بلد إلا وأضعفته، وأضعفت القوى الحية فيه، وهي الغالبية الساحقة من جماهير الشعب، لمصلحة قوى النهب والفساد الكبيرين المرتبطة بحبل السرة مع قوى الرأسمال المعولم والمتوحش. وقد كان لافتاً تصريح السيد رئيس الجمهورية بشار الأسد عشية وصول الرئيس ساركوزي إلى دمشق: «لدينا اعتقاد بأن إسرائيل تسعى لحرب، ربما في أكثر من اتجاه، وقد تكون الأولوية لها إيران، وربما تكون الأولوية الأخرى هي لبنان، ولا نستبعد سورية، بما أنها اعتدت على سورية سابقاً». إن القراءة الاستراتيجية لخطورة الوضع في القفقاس وانكشاف زيف ما سمي بالتهدئة في منطقتنا، يفرض علينا الاستعداد لما سنواجهه في الشهور القادمة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ويفي ذلك ضمانة لتحقيق كرامة الوطن والمواطن..