الافتتاحية ليست أزمة عابرة..
تجاوزت الأزمة المالية العالمية كل التوقعات، وهي تتسارع مخلفة وراءها كل السرعات السابقة لأخواتها اللواتي عصفن بالاقتصاد الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية..
فسعر برميل النفط اقترب من مستوى 140 دولاراً، وارتفع مؤخراً خلال ليلة واحدة عشرة دولارات، بينما كان يتطلب الأمر قبل عقود من الزمن بضع سنوات لتحقيق هذا الرقم.. وارتفاع أسعار النفط ما هو إلا دليل على انخفاض قيمة الدولار نفسه، ولا نلغي هنا دور المضاربين الكبار في رفع السعر، ولكن دورهم يبقى على هامش هذه الارتفاعات ونتيجة لها بالمحصلة، وليس سبباً لها كما يحاول بعض الاختصاصيين البورجوازيين الإيحاء لنا..
إن مشكلة الدولار هي رأس جبل الجليد لمشكلة أكبر وأزمة مستعصية، هي أزمة الاقتصاد الأمريكي نفسه الذي تعدُّ دولته طليعة الإمبريالية العالمية، لذلك فإن تداعيات هذه الأزمة إلى جانب آثارها المحلية أمريكياً التي بدأت تظهر للعيان من خلال فقدان الملايين لسكنهم وانخفاض مستوى معيشتهم السريع.. هذه التداعيات هي تداعيات عالمية، فأسعار الغذاء إلى ارتفاع مستمر وتهدد بإبادات جماعية وخاصة في الجنوب الفقير، وهي إلى جانب ذلك تهدد مستوى معيشة الملايين في الغرب الرأسمالي نفسه، وما الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة في أوروبا الغربية إلاّ دليل على ذلك...
والسؤال الأهم؛ هل هذه الأزمة هي أزمة عابرة ومؤقتة، أم أنها عميقة وعضوية ولا مخرج منها؟
كل التقديرات والتوقعات تقول: إن هذه الأزمة قد تجاوزت بخطورتها أزمة 1929- 1930، وإذا كانت تلك الأزمة إقليمية، أمريكية وعابرة، فإن الحالية عالمية ومستعصية، فالأزمة القديمة حلتها الحرب العالمية الثانية التي خرج الاقتصاد الأمريكي منها منتعشاً ومنتصراً، أما الأزمة الحالية فلم تستطع ما تسمى «الحرب العالمية على الإرهاب» التي أعلنتها الإمبريالية الأمريكية منذ 2001 أن تبعد شبحها، بل العكس هو الذي يجري، فكلما غاصت الولايات المتحدة بالحرب أكثر، تعمقت أزمتها الشاملة أكثر.. لذلك ليس من الخطأ أن نعدّ هذه الحرب التي أعلنت منذ بداية القرن الواحد والعشرين مجرد ضربة استباقية لتفادي الأزمة القادمة نفسها، ولكن الذي تبين على الأرض أن الحرب التي هي «الرئة الحديدية التي تتنفس عبرها الرأسمالية» على حد تعبير أنجلس.. لم تكن كافية، بحدودها التي وصلت إليها حتى اليوم، لهضم الأزمة الاقتصادية الخانقة..
وأصبح معروفاً للقاصي والداني أن هدف الحرب الأمريكية الحالية هو الاستيلاء المباشر على مصادر الطاقة لأنه حسب رأيها، يكمن فيه الحل الوحيد لأسباب الأزمة التي هي:
ـ تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأمريكي أمام الاقتصادات الصاعدة الأخرى: الأوروبية، الصينية، الروسية... الخ.
ـ الخطر على وضع الدولار كعملة تبادل عالمية وحيدة، وإبقاء النفط مسعراً به، أمام خطر ضغط العملات الإقليمية الصاعدة الجديدة.
- الخطر على النمط الاستهلاكي الأمريكي المفرط في استخدام الطاقة لتلبية حاجاته التي إذا تراجعت، سيؤدي الأمر إلى وضع النظام السياسي الأمريكي نفسه موضع خطر تحت ضغط احتمال تمرد المجتمع الأمريكي.
والواضح أن عدم تحقيق هذا الهدف، سينقل الولايات المتحدة الأمريكية خلال المستقبل المنظور إلى دولة من الوزن الثالث والرابع على المستوى العالمي، مع ما يحمله ذلك من خطر على دورها السياسي والعسكري، والأهم على أرباحها من تريليونات الدولارات سنوياً التي تحققها بسبب وضعها المهيمن.
والسؤال الكبير؛ هل ستقبل الإمبريالية الأمريكية الانتقال الطوعي السلمي إلى مكانها الطبيعي، أم أنها ستقاتل بشراسة للحفاظ على وضعها الحالي مع كل ما يحمله هذا القتال من احتمال فشل وتراجع؟!.. أي بكلام آخر؛ هل يمكن أن يبدأ التراجع قبل أن تصل حملتها العسكرية ضد الكرة الأرضية إلى حدودها القصوى؟!..
إن تجارب التاريخ تؤكد أنه ما من جريمة إلا وسترتكبها الإمبريالية للحفاظ على وضعها وأرباحها.
لقد قلنا منذ 2002 إن الإمبريالية الأمريكية محكومة بالحرب، وأضفنا لاحقاً أنها محكومة بتوسيع رقعة الحرب، واليوم نؤكد أنها محكومة بالفشل أمام مقاومة الشعوب مهما كانت التضحيات، لذلك يبقى خيارنا الوحيد هو المقاومة.. أما المراهنة على عقلانية الإمبريالية الأمريكية ورأسها البارد، فهو قبض للريح وباطل الأباطيل..
إن كل ما تقوم به الإمبريالية الأمريكية وحليفتها إسرائيل الصهيونية في منطقتنا، ما هو إلاّ محاولة لكسب الوقت لتجميع القوى وتنظيم الصفوف لتهيئة الضربة اللاحقة التي تستعجلها الأزمة الحالية المستعصية.. إن إدراك هذه الحقيقة والعمل على أساسها، يضع الأساس للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن..