الافتتاحية بين القيمة المضافة والقيمة المستنزفة..
اعتمدت الحكومة حزمة إجراءات لإصلاح القطاع العام الصناعي، وهي بآن واحد تعد العدة لطرح قانون العمل الجديد. والملفت للنظر أن الإجراءات المنتظرة لإصلاح القطاع العام الصناعي، بالشكل الذي جاءت عليه، متأخرة عشر سنوات على الأقل عما يجب القيام به اليوم فعلياً من أجل إصلاحه..
فالإجراء الأول من حزمة إجراءات هو: إلغاء احتساب الاهتلاكات عن الأصول المستهلكة دفترياً، هو إجراء إيجابي بحد ذاته، ولكنه غير كاف إطلاقاً لمعالجة مشكلة الاهتلاكات، ويمكن أن يستخدم لاحقاً من البعض لتبرير طرح هذه الشركات نفسها للاستثمار الخاص في حال لم تستطع النهوض بأحوالها بعد هذا الإجراء، وهي على الأرجح لن تستطيع، لأن المشكلة اليوم ببساطة ليست في إلغاء احتساب هذا الاهتلاك بهذا الشكل، بقدر ما هي إعادة ما أخذ من هذه الشركات جوراً خلال عشرات السنين بحجة الاستمرار باحتساب الاهتلاك دفترياً. ماذا يعني هذا الموضوع؟ فلنأخذ مثالاً ملموساً: إذا اشترت إحدى شركات القطاع العام آلة بعشرة ملايين ل.س منذ ثلاثين عاماً، وإذا سددت إلى الخزينة مليون ل.س سنوياً قيمة اهتلاك حقيقي، فإنها بعد عشر سنوات تدفع ثمن الآلة.. ولكن، وكما حصل، استمرت في تسديد هذه المليون ل.س السنوية لخزينة الدولة لمدة عشرين سنة أخرى، مع أنها كانت قد انتهت من تسديد السعر الحقيقي للآلة في العام العاشر، وسمي كل ما دفع بعد العام العاشر اهتلاكاً دفترياً.. وأدى استمرار احتساب الاهتلاك، ولكن دفترياً هذه المرة، إلى منع الشركة المعنية من تحقيق تراكم، وزاد من كلف إنتاجها، وخفّض فوائضها الاقتصادية، أي أنها بعد انتهاء التسديد من «لحمها» أخذت بالتسديد من «عظمها» نفسه.. ونتساءل اليوم عن سبب خسارة شركات القطاع العام الصناعي!.
كان يمكن لهذا الإجراء أن يعطي نتائج إيجابية لو حصل قبل عشر سنوات، مع أن هذا الإجراء إيجابي وفيه اعتراف ضمني بأن الحكومة جارت على القطاع العام لعقود، ولكن في الوضع الملموس القائم اليوم لشركات القطاع العام، لن يؤدي مطلقاً إلى نتائج إيجابية، والمطلوب اعتبار ما سدد دفترياً هو دين للشركات في عنق الخزينة والحكومة، ويجب إيجاد طريقة لإعادة ضخه في شركات القطاع العام الصناعي، هكذا فقط نحصل على نتائج إيجابية..
وإذا كان هذا المثال يؤكد أن الحلول المتأخرة هي حلول ناقصة، وغير فاعلة، فإن مثال مشروع قانون العمل الجديد يثير الهلع بقدر ما هو خاطئ ومضر، فهو يشرّع لفكرة عقد العمل من الباطن بين رب العمل والعامل، أي عبر طرف ثالث ويحرم العامل من الحقوق التي اكتسبها على مر السنين، وأهمها كرامته، إذ سيعامل كبضاعة تؤجر في سوق العمل دون أية حقوق فعلياً.. وستصبح مكاتب التشغيل والخاصة منها هي هذا الطرف الثالث. والمدهش أن منظمة العمل الدولية رفضت إصدار قرار بهذا الموضوع، واكتفت بمجرد توصية بسبب معارضة ممثلي البلدان الرأسمالية الكبرى نفسها التي لم تنثنِ أمام ضغط المؤسسات الدولية التي كانت تسوق للفكرة.. فاتحاد الصناعيين الأمريكيين مثلاً رفض هذه الفكرة لأنها مضرة بالعملية الإنتاجية، كونها ترفع أية مسؤولية لرب العمل تجاه عماله..
إن التجربة التاريخية برهنت أنه لا تنمية دون صيانة حقوق الناس وكراماتها، ومشروع قانون العمل الجديد يهدر هذه الحقوق والكرامات من خلال ما سيشرعه إذا ما أقر في موضوع: التشغيل والتسريح والأجر والمزايا الأخرى من نقل وتأمينات وخدمات مختلفة.. إن إقرار هذا المشروع قضية خطيرة، إذ سيتحول العامل السوري إلى مغترب في وطنه، له من الحقوق ما للمستخدم المستورد من سيريلانكا والفليبين.. والملفت للنظر أن قوانين كهذه لم تُشرَّع فعلياً إلا في بعض بلدان أوروبا الشرقية بعد الانهيار الذي حصل.. فهل يمكن أن يجري ذلك في سورية التي يفخر كل العالم بمواقفها الممانعة للمخططات الإمبريالية- الأمريكية والصهيونية؟
لقد كانت سورية مثالاً وقدوةً في المواقف السبّاقة على مر التاريخ.. وإقرار قانون كهذا سيضر بسمعتها السياسية عالمياً، عدا عن التوتر الاجتماعي الذي سيراكمه بالتدريج السريع، والذي يمكن أن يتحول إلى قنبلة موقوتة تهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وبالتالي الوحدة الوطنية..
لم نر في كل الإجراءات والمشاريع المطروحة مؤخراً قيمةً مضافةً، نقول هذا، في معرض التعليق على ما طرحه النائب الاقتصادي في ندوة الثلاثاء الاقتصادي بتاريخ 3/2/2009، والذي طالب المنتقدين لسياساته بقيمة مضافة في آرائهم التي وصفها بالآراء الصحفية، وكان الحري به احترام الرأي الآخر الذي لم يجري تجريبه على أرض الواقع فعلياً اليوم كي يثبت حجم القيمة المضافة الكامنة فيه، عكس الآراء التي يمثلها السيد الدردري والتي جربت بما فيه الكفاية، والأكيد أن هذه السياسات التي يرعاها أمثاله وتنتج هذه الإجراءات والمشاريع لا تحوي إلاّ قيمةً مستنزفة، والدليل هو تراجع ونقصان الإنتاج الحقيقي، وبالتالي نقصان النمو الحقيقي للاقتصاد الحقيقي بغض النظر عن التصريحات والأرقام المعلنة.. إن القيمة المضافة الحقيقية اليوم هي في التراجع عن المشاريع الخاطئة فيما يخص قانون العمل، وفي القيام بإجراءات غير ناقصة ومتأخرة لإنقاذ القطاع العام الصناعي، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن...