الافتتاحية ما المطلوب من تعديل قانون العمل؟
تتسارع التحضيرات لإطلاق قانون العمل الجديد.. والمؤشرات الأولى في المشروع المطروح للإقرار لا تبشر بالخير، ففيها بالمحصلة تراجع هام وواضح عن مكتسبات حققتها الطبقة العاملة خلال العقود الماضية، والأكيد أن التراجع عن هذه المكتسبات لن يفيد لا الطبقة العاملة، ولا أرباب العمل (من قطاع عام وخاص)، ولا الاقتصاد الوطني بنهاية المطاف..
إن التعديلات المقترحة تسير باتجاه تقييد حقوق العامل المشرّعة قانوناً حتى الآن في مجال التشغيل والتسريح والأجر والمزايا المختلفة المباشرة وغير المباشرة التي كانت تحصل عليها الطبقة العاملة، من نقل وصحة ووجبات غذائية..الخ. ففي مجال التشغيل تسمح التعديلات الجديدة، بالعقد من الباطن، أي تسمح لرب العمل أن يستأجر يداً عاملة عبر طرف ثالث، سمُي في هذه الحالة «مكاتب التشغيل» وهي قد تكون عامةً وخاصةً حسب مشروع القانون، وتقوم هذه المكاتب بتوفير اليد العاملة على أساس عقد بينها وبين رب العمل ولا يكون رب العمل مسؤولاً في هذه الحالة عن شيء!.. إذ يقوم بشراء قوة العمل بالجملة وليس بعقود إفرادية كما كان يحصل حتى الآن، مما يعفيه من أية مسؤوليات معنوية ومادية والتي ستلقى في هذه الحالة على مكاتب التشغيل التي تقوم بدورها بالاتفاق مع صاحب قوة العمل، ليس ببيع قوة عمله لجهة محددة سلفاً وإنما لها تحديداً، وسيكون لها الحق حينذاك بتوجيهه إلى المكان الذي تقرره حسب الطلبيات الموجودة عندها.. والخطير في هذا التوجه أنه في حالة وجود جيش من العاطلين عن العمل ــ وهو يتزايد باستمرار ــ ستتحول هذه العقود إلى عقود إذعان، وسيتم التعامل مع قوة العمل كبضاعة مجردة بكامل معنى الكلمة!..
وإذا كنا لا نريد التوقف عند الجانب المعنوي للموضوع الذي فيه هدر كبير لكرامات الناس، إلاّ أن التوقف عند الجانب المادي هام جداً، فمكتب التشغيل سيقوم عملياً بتوقيع عقدين؛ واحد مع رب العمل؛ وآخر مع صاحب قوة العمل، وتتحدد في هذا العقد كل شروط العمل وأولها الأجر.. ومن أين سيربح مكتب التشغيل؟ الواضح أنه سيربح من فارق العقدين، أي من حصة العامل نفسه.. فهل نحن بحاجة إلى حلقة طفيلية إضافية على قوة العمل من أجل تنظيم توزيع الموارد البشرية؟!..
لقد تخوفت منظمة العمل الدولية نفسها التي يسيرها إلى حد كبير صندوق النقد الدولي من هذه الطريقة في العقود، ورفضت أن تصدر قراراً عاماً تحت ضغط نقابات العمال، والأغرب أن هذا الرفض جاء تحت ضغط أرباب العمل في البلدان الغربية المتقدمة أنفسهم، والذين تخوفوا من تأثير هذه الطريقة سلبياً على مجمل العملية الإنتاجية.. واكتفت منظمة العمل الدولية بمجرد توصية، ولم تطبق هذه الطريقة إلاّ في بعض البلدان التي كانت تتراكض نحو الخصخصة في أوروبا الشرقية مثلاً..
قد يقول قائل إن هذه الشروط الجديدة ستجذب الرساميل الخارجية للاستثمار في سورية.. ولكن التجربة التاريخية برهنت أن هذه الطريقة في التفكير مخالفة للحقيقة، فالجزء الأساسي في الرساميل الحقيقية لا يتدفق باتجاه البلدان ذات مستوى الأجر المنخفض، لأن مستوى الأجر المنخفض المرتبط بقوانين جائرة بحق الطبقة العاملة لا يؤمن للرأسمال الذي يفهم مصلحته قضيتان هامتان وهما؛
1 ـ حجم طلب ضروري لتسيير العملية الإنتاجية لاحقاً.. لأن الأجر المنخفض يعني طلباً منخفضاً ويعني الكبح لعملية إنتاج مواد الاستهلاك الواسع.
2 ـ حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي تؤمنه أجور معقولة، لأنه بانتفاء هذا الاستقرار يجري تهديد لاستمرارية العملية الإنتاجية نفسها..
لذلك فالقول إن الأجور المنخفضة هي ضمانة لجذب الاستثمارات هو باطل الأباطيل وقبض للريح، فـ 90 % من الاستثمارات العالمية تذهب ركضاً باتجاه البلدان ذات الأجور الأعلى، وبالتالي الإنتاجية الأعلى.. أما الـ 10 % المتبقية فإنها تناور في فضاءات العالم الثالث متنقلةً من بلد لبلد، بلد تأخذه لحماً وتتركه عظماً وهكذا دواليك...
إن قانون العمل الجديد يجب أن يسير باتجاه الحفاظ على مكتسبات الطبقة العاملة وليس التراجع عنها تحت ستار كثيف من القنابل الدخانية التي تتباكى على الاقتصاد الوطني والنمو وضرورة جذب الاستثمارات من الخارج.. إن الاستثمار الأهم كان دائماً وما يزال هو الاستثمار في البشر أنفسهم، وليس استنزافهم.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.