الافتتاحية إجراءات حمائية.. أم انفتاحية؟
هاجس جميع الوطنيين هو حماية الاقتصاد السوري قدر الإمكان، من مخاطر الأزمة العالمية. وعندما نتكلم عن الاقتصاد الوطني إنما نقصد تحديداً الإنتاج الوطني ومستوى معيشة الأكثرية الساحقة من الناس.. فتراجع الإنتاج الوطني يعني حكماً تراجع مستوى معيشة الناس المتراجع أصلاً بسبب اختلال التوزيع بين الأجور والأرباح على المستوى الكلي، وإذا حصل تراجع للإنتاج الوطني، أي انخفاض نمو الانتاج المادي في الزراعة والصناعة، فإن ذلك سيخلق الأرضية الملائمة لتراجع مستوى المعيشة. وقد لوحظ أصلاً تراجع في الإنتاج المادي خلال السنوات الماضية رغم الأرقام العالية المعلنة للنمو الاقتصادي، فماذا إذا ازداد التراجع في ظل العاصفة الاقتصادية التي يشهدها الاقتصاد العالمي، والذي حذر أوباما نفسه مؤخراً من خطر الانهيارات المتسلسلة ودائرة الفقاعات المتفجرة؟ إن رؤية متبصرة في احتمال تطور الأزمة العالمية تؤكد تفاقمها واشتدادها خلال المستقبل المنظور، وهو ما دفع دولاً كثيرة للتفكير بأمرين:
الأول: الحد من التعامل بالدولار الذي يلعب دور العملة العالمية، عبر المطالبة باعتماد عملة عالمية جديدة تكون مقياساً جديداً للعملات الوطنية..
والثاني : التفكير بإجراءات حمائية تخفض من احتمال تأثير الأزمة إلى حين عودة الاقتصاد العالمي إلى مساره الطبيعي الذي لن يتحقق دون إزاحة الدولار عن عرشه العالمي..
وإذا كانت الحال على هذا الشكل، فنظرة إلى السياسات الاقتصادية الحكومية تؤكد استمرار السير نحو إجراءات انفتاحية يمكن أن تهدد الاقتصاد السوري بأخطار استراتيجية، بينما المطلوب عكس ذلك تماماً في اللحظة الراهنة. فالإجراءات الاقتصادية على الأرض تميل نحو المزيد من الانفتاح على الرساميل الخارجية بحجة توفير إمكانية لزيادة الاستثمار في الاقتصاد السوري، وهو الأمر الذي لم يعط نتائج حقيقية على الأرض، إن لم نقل أنه أعطى نتائج سلبية، بتوجه تلك الرساميل المتوخاة نحو الفروع الريعية غير الإنتاجية، مما أضر بالاقتصاد الوطني وبتوازناته الرئيسية..
وبحجة توفير المناخ الملائم لمجيء هذه الرساميل، يجري انفتاح لا سابق له في مجال الاستيراد، أدى فعلياً لإغراق السوق بسلع استهلاكية معمّرة (السيارات مثلاً) لم يستفد منه إلا قلة قليلة من الوكلاء اغتنت، وسبّبت مزيداً من الضغط على الليرة السورية، وعلى مصادر القطع الأجنبي. وسبق ذلك انفتاح في مجال السماح ببيع وشراء الأراضي والعقارات للأجانب مما خلق تهديدات جديدة للأمن الوطني.. ومؤخراً رافق ذلك محاولات لتعديل قانون العمل باتجاه انفتاحي يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى استيراد قوة عمل من الخارج على حساب قوة العمل الداخلية المهددة بمزيد من البطالة ونسف جزء هام من حقوقها المكتسبة حتى الآن.. يضاف إلى كل ذلك ما يجري من انفتاح ثقافي يستورد أسوأ ما في ثقافات الخارج على حساب تطور ثقافي حقيقي في الداخل.. والمشكلة أن كل هذه الإجراءات تتم تحت يافطة تشجيع الاستثمار، بينما في الواقع يصبح الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي شبه مستحيل نتيجة لهذه الأجواء، ونتيجة للمناخ الذي سببته الإجراءات الانفتاحية التي تطبق في أجواء متغيرة عالمياً وفي توقيت خاطئ وغير مناسب.
بينما المطلوب هو عكس ذلك.. وهناك مزيد من الدول والاقتصادات المهددة بموجة الأزمة تفكر جدياً بإجراءات حمائية لحين استقرار الأوضاع، وتَوضّح الأفق اللاحق..
إزاء ذلك تبرز جملة من الموجبات والأسئلة:
المزيد من الحماية لليرة السورية، في ظل وضع تتراجع فيه أسعار المواد الخام، وتتضاءل فيه القيمة الشرائية للعملات العالمية الأساسية، وليس التفكير في تغيير سعر صرف الليرة بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولحماية الليرة السورية، المطلوب حماية الرصيد الوطني من العملات الصعبة الذي تكوّن تاريخياً بجهد وعرق الشعب السوري، وليس التفريط به بالسماح بالتصدير دون أية ضوابط، وأهمها إعادة قطع التصدير إلى الداخل، فالميزان التجاري مختل أصلاً لصالح الاستيراد مما ينهك بالتدريج الاقتصاد الوطني، فكيف الأمر إذا ألغي التزام إعادة قطع التصدير إلى مصدره الداخلي؟
والرصيد الوطني من العملات الصعبة قد تكوّن تاريخياً من ناتج، وبالتالي فائض الإنتاج الحقيقي في الصناعة والزراعة، فكيف ستكون الحال بتراجعهما؟ ألن يؤدي ذلك إلى تآكل هذا الرصيد وتبخّره؟ هذا الرصيد الذي كان، ومايزال أحد نقاط الاستناد الهامة للقرار السياسي السوري في مواجهة الضغوط الخارجية.
وكيف يمكن حماية الزراعة والصناعة في الظروف الحالية دون سياسات حمائية وتحفيزية وتشجيعية؟ هل يمكن حماية الزراعة والصناعة بسيل البضائع التي تتدفق من الخارج دون أية ضوابط أو حواجز حقيقية؟ ألن يؤدي ذلك إلى خروج مئات الآلاف من المرتبطين بالعملية الإنتاجية إلى خارج دائرة الانتاج نفسه، وهذه العملية يمكن للمراقب أن يلحظها الآن، ويرى أنها قد بدأت تسبب أضراراً كبيرة يمكن أن تتراكم وتفضي إلى توترات اجتماعية لا تُحمد عقباها؟
- لذلك فإن حماية الزراعة والصناعة في الظروف الحالية تتطلب حماية أصل أساسي من مكوناتهما وهو الأراضي والعقارات التي يمكن أن ترى فيها بعض الرساميل الخارجية ملاذاً من الأزمة العالمية إلى حين، والتي لن تفيد اقتصادنا الحقيقي، ناهيك عن أخطارها السياسية المحتملة في ظل الأوضاع المتفجرة في منطقتنا.
-إن كل هذه الإجراءات الحمائية المطلوبة، ستعني بنهاية المطاف حماية المواطن السوري نفسه وأجره ومستوى معيشته، كما ستعني حماية اليد العاملة السورية من أخطار الانكماش العالمي الجاري على قدم وساق..
نعتقد أن هذه الإجراءات غير مبالغ بها في اللحظة الراهنة، بل تتطلبها ضرورات التطور الحالي واللاحق. والأفضل أن تجري بأسرع ما يمكن، لأن التأخر بها سيضر الأمن الوطني بمعناه العام، وبالتالي سيلحق أضراراً بالغة بكرامة الوطن والمواطن.