الافتتاحية: المقاومة.. بين السياسة والاقتصاد
إذا كان المخطط الأمريكي- الصهيوني الذي يتعامل مع منطقتنا تعاملاً شاملاً بالمعنى الجغرافي، وبالمعنى السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي- العسكري، إلاّ أنه لا يمكن له إلاّ أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل جزء منها لإضعاف نقاط القوة فيه، وتعظيم نقاط الضعف، أي للمخطط العام خصوصيته في التنفيذ على كل بقعة على حدة في هذه المنطقة الشاسعة من باكستان إلى المتوسط، ومن أفغانستان إلى اليمن..
والحقيقة، أن الأوساط الإمبريالية تراهن على الوضع الاقتصادي الداخلي في سورية، وفي تقارير تنشر في الصحافة العالمية (انظر تقرير رويترز في 3 أيلول) يقول التقرير حرفياً:
«ربما يؤدي المزيد من مواسم الحصاد السيئة وارتفاع نسبة البطالة.. إلى إغراء الحكومة بالسعي لإحراز تقدم في مجالات أخرى، من بينها استئناف المحادثات مع إسرائيل»، ويضيف في مكان آخر: «ربما يكون لإبرام اتفاق مع إسرائيل وهي مسألة غير مرجحة الآن، أثر ثانوي على مشاعر رجال الأعمال واحتمال التدفق الكبير لرؤوس الأموال من الخارج ومن المغتربين»..
كما يؤكد في مكان آخر أن «الحكومة السورية تأمل بجذب 44 مليار دولار أو 83% من ناتجها المحلي الإجمالي الحالي كاستثمارات بالقطاع الخاص على مدى الأعوام الخمسة القادمة».
ما هي الرسالة التي يحاولون إيصالها من خلال ذلك؟ يريدون القول إن الحصول على الاستثمارات المأمولة من الخارج مرهون بتغيير موقف سورية المبدئي جذرياً من قضية الصراع العربي الإسرائيلي..
السؤال: هل يتحكمون بحركة الاستثمارات ويستطيعون أن ينفذوا وعودهم ووعيدهم؟ التجربة السابقة تقول نعم.. والتجربة اللاحقة ستؤكد ذلك أيضاً، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار مفاعيل الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية وتداعياتها على انحسار حركة الرساميل في العالم بأجمعه..
إن من يتحكم بالنظام المصرفي العالمي هو من يتحكم بحركة الرساميل في العالم بنهاية المطاف.. وقد أكدت تجارب مختلفة أن لحركتها شروطاً مختلفة، وتأتي السياسية على رأسها..
لقد نمت في الاقتصاد والمجتمع السوري خلال السنوات الخمس الماضية، كنتيجة للسياسات الاقتصادية المتبعة، قوة اجتماعية تتمركز بين أيديها الثروة أكثر فأكثر.. ويمكن توصيفها بأنها ريعية تعمل على هامش الاقتصاد الحقيقي، وتحقق أرباحاً غير اعتيادية، مرتبطة بهذا الشكل أو ذاك بعجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وخاصةً عجلته المالية العالمية..
ولذلك إذا كان من السهل توصيف هذه القوى اقتصادياً، إلاّ أنه من الأهم توصيفها سياسياً لمعرفة مدى ارتباطها بالثوابت الوطنية ومدى قدرتها على إخضاع مصالحها الخاصة للمصلحة الوطنية العامة، ومعرفة مدى استعدادها للتضحية بمصالحها أمام المصلحة الوطنية العليا..
لقد أثبتت كل التجارب السابقة أن هذه القوى، ويأتي على رأسها قوى الفساد الكبرى، هي نقاط الضعف في الاقتصاد والمجتمع التي يسهل اختراقها من جانب العدو الخارجي، الذي يسعى لإيجاد الثغرات وتوسيعها والتسلل منها.. أو على الأقل تكون هذه القوى - كما أثبتت تجربة المعارضة الإيرانية - أكثر ميلاً للمساومة وعقد الصفقات مع العدو بحجج ما أنزل الله بها من سلطان، على شاكلة «ميزان القوى المختل»، و«ما كان بالإمكان إلاّ ما كان»..
إن استرضاء هذه القوى هو وهم وقبض للريح، فلا هي ستقدم على توظيف رساميل جدية، وستطلب دائماً تنازلات مسبقة تنعكس في السياسات الاقتصادية، تتحول في نهاية المطاف إلى تنازلات مجانية.. وهي لن تقبل بديلاً عن الموافقة بشكل كامل على كل برنامجها الاقتصادي والسياسي الذي ستطالب بضمانات لتحقيقه عبر تغيير جذري في بنية السياسات الوطنية، وعبر إيجاد المعادل السياسي على الأرض الذي يحمي سياساتها إذا ما طبقت..
والخلاصة إذاً؛ من الخارج يلوحون لنا: خذوا استثمارات، ولكن تنازلوا عن الكرامة الوطنية والحقوق الشرعية.. وفي الداخل يقول أشباه الخارج: خذوا استثمارات، ولكن خففوا تدخل الدولة، وأطلقوا حرية أيادينا، ولا «تصرعونا» بحقوق العمال والكادحين ومكاسبهم..
إنهما موقفان يكمل بعضهما البعض، ويمثلان نهجاً واحدا،ً وأحدهما يتطلب الآخر ويخدّمه..
إن السياسة السورية المقاومة للمخططات الإمبريالية الأمريكية- الصهيونية، تتطلب اقتصاداً على شاكلتها.. اقتصاداً يؤمّن مقومات استمرار هذه السياسة، وإذا كان عكس ذلك فإنه سيكون عائقاً ومعيقاً لها وخطراً عليها.. إن إيجاد النموذج الضروري لاقتصاد مقاوم هو ضرورة وطنية عليا تستجيب لكرامة الوطن والمواطن..