الافتتاحية: الاقتصاد.. ما بين التنظير و«التخبيص»!
غالباً ما يتهم المنتقدون للسياسات الاقتصادية الجارية بـ«التنظير» لأن القائمين على أمور الاقتصاد «عمليون» ويعرفون الواقع وتعقيداته، وبالتالي يقومون بالمعالجة دون «تنظير»..
ـ لذلك نحن مضطرون للعودة قليلاً إلى أصل المشكلة، بين النظرية والتطبيق..
ـ ما هي النظرية؟ أليست هي المجموع المكثف للتطبيقات السابقة الناجحة منها وغير الناجحة؟ وهل هنالك أصلاً نظرية بلا تطبيق؟ ومن هو أولاً في ثنائية النظرية والتطبيق؟ واضح أنه في البدء كان التطبيق والتجريب، ثم تأتي النظرية كمحصلة لهذه العملية.. ولكن من جهة أخرى، هل هناك تطبيق بلا نظرية؟ طبعاً لا، لأن كل تطبيق هو حصيلة لنظرية ما، بغض النظر أثبتت الحياة أم لم تثبت صحتها من خطئها..
ـ والأمر هكذا.. أحقاً لا يعتمد مسؤولو الاقتصاد على خلفية نظرية في تطبيقاتهم كي يتهموا من لا يوافقهم الرأي بالتنظير؟ إنهم حتماً يقومون بتطبيق قناعاتهم النظرية.
ـ والنتيجة؟ إذا كان التطبيق هو محصلة لنظرية ما، فما هي الخلفية النظرية للسياسات الاقتصادية العملية الحالية؟ إنها النظرية الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، والمعروفة بنقاط انطلاقها التالية:
1 ـ دعه يعمل دعه يمر، والمقصود صاحب السيادة: الرأسمال.
2 ـ أساس ازدياد الثروات في المجتمع هو الرأسمال، لذلك كل الاحترام والطاعة له.
3 ـ دع الأغنياء يزدادون غنى، لأنهم محفز النمو والاستقرار.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عالم اليوم مفتوح بعضه على بعض، وأن الرأسمالية المعولمة المتوحشة هي التي تسود في كل أرجاء المعمورة، فماذا يعني ذلك تطبيقياً على أرض بلد مضطر أن يواجه مخططات خارجية معادية تستهدف سيادته الوطنية ووحدة أراضيه واستقلاله؟!
إنه يعني بلا شك أخذه من الداخل، بعد أن استعصى على أعدائه من الخارج.
لأن دعه يعمل دعه يمر.. إذا ما مرت، تعني الاستيلاء على مفاتيح القرار الاقتصادي في الداخل، ولأن «دع الأغنياء يزدادون غنى» يعني تفجير الاستقرار الاجتماعي واستهداف الوحدة الوطنية، لأن الرأسمال الذي سيملك كل شيء مع الوقت، سيطلب، بل سيعمل كي يحكم.. وأخيراً ما الفرق حينذاك بين الرأسمال الكبير المتمركز بيد البعض القليل في الداخل، وبين نظرائه من الرساميل الكبيرة في الخارج؟ لا فرق، بل سيجد هؤلاء الوسيلة للتفاهم والتضامن والاتحاد، ليس بالمعنى الاقتصادي فقط، بل بالمعنى السياسي أيضاً.. ضد كل من هو متضرر من سياساتهم وهم الأكثرية الساحقة من الناس أينما كانو!.
بل سنضع السؤال بشكل حاد أكثر: من الأقرب إلى أصحاب الرساميل الكبيرة في الداخل؟ أصحاب الرساميل الكبيرة في الخارج، أم المواطن البسيط المتضرر في الداخل؟ الجواب واضح..
لذلك ليس تنظيراً القول إن ازدياد وزن أصحاب الرساميل الكبيرة، وخاصةً التي تعمل في المجالات الريعية وغير الإنتاجية، وفي ظروفنا الملموسة ظروف احتدام المعركة ضد المخططات الأمريكية- الصهيونية، هو أمر خطير ويهدد الأمن الوطني في نهاية المطاف.
وكذلك ليس تنظيراً القول إن السياسات الاقتصادية المتبعة قد أثبتت فشلها الذريع في التطبيق. إن معيار صحة أية نظرية هو التطبيق، وهاهي نتائج التطبيق تعبر عن نفسها بوضوح..
والنتائج التطبيقية هذه، هي تعبير من جهة أخرى عن بطلان وفشل المنطلقات النظرية التي يعمل على أساسها «التطبيقيون» «العمليون» «الليبراليون»، هذه المنطلقات التي لا يحبذون الإعلان عنها كثيراً.. والتي دفعتهم دفعاً إلى مزيد من «التخبيص» في التطبيق!.
ومن جانب آخر نقول هناك بديل لهذه السياسات نظرياً وعملياً..
والأساس النظري لهذا البديل معروف، وهو:
1 ـ العدالة الاجتماعية هي أساس أي نمو.
2 ـ أساس ازدياد الثروة هو العمل وما ينتجه من قيم مضافة حقيقية.
3 ـ مصلحة أكثرية المجتمع هي أساس المصلحة الوطنية، والمصلحة الوطنية العليا لها الأولوية أمام أية مصلحة أخرى..
ورب قائل: وكيف التطبيق؟ نقول لقد استنفد الخيار الاقتصادي الليبرالي فرصته، وفرصة بديله الجذري آتية لا محالة، وأساس برنامجه موجود، ولكنه يتطلب أوسع حوار وطني، وإنما الأعمال بالنتائج.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن..