الافتتاحية الصبر جميل.. ولكن له حدود!

شهد الأسبوع الأخير حدثين مهمين لهما دلالة كبيرة، وسيكون لهما تأثير كبير على كل التطور اللاحق للبلاد..

فمجلس الشعب أقر عدة مواد من قانون العمل الجديد بعد نقاش حاد وطويل مع الحكومة، تنسف بصيغتها الجديدة مكتسبات هامة للطبقة العاملة وحركتها النقابية كانت قد حققتها بعد نضالات مضنية على مر تاريخها.. وقد نصت المواد الجديدة عملياً على حق رب العمل بالتسريح التعسفي للعمال، حتى ولو أقر القضاء بعودتهم إلى  العمل، ومن جانب آخر لم تعطهم حق الإضراب للدفاع عن حقوقهم، وجعلت التفاوض واللقاء الودي هو الطريقة الوحيدة لحل المشكلات بينهم بما يخالف اتفاقيات العمل العربية والدولية حول الحريات النقابية.

كما أن المواد والنصوص المختلفة التي أقرت تعد خطوة كبيرة إلى الوراء، فمثلاً المادة (71) لا تشير بوضوح إلى مهمة اللجان المختصة بتحديد الحد الأدنى للأجور وفق متوسط الأسعار، كما أن القانون استثنى من أحكامه قطاعات واسعة من الطبقة العاملة وخاصةً العاملين في الأعمال العرضية مثل عمال قطاع البناء والذين يبلغ عددهم ما يقارب نصف مليون عامل..

الحدث الثاني هو مؤتمر الطاقة الذي عقد في الأسبوع الماضي، والذي كان مجالاً لبعض المسؤولين الاقتصاديين لإطلاق التصريحات حول تحرير أسعار الكهرباء وتحديد آجال زمنية لإنجاز هذه المهمة.. أي جرى وعيد المواطنين برفع أسعار استهلاك الكهرباء خلال السنوات القليلة القادمة عدة أضعاف لكي تصبح في مصاف الأسعار العالمية..

وقد رافق هذين الحدثين موجة زاحفة لارتفاعات الأسعار للمواد الضرورية للاستهلاك الشعبي الواسع، وخاصةً لحم الدجاج، والأرجح أن هذه الموجة ستستمر في زحفها خلال الأسابيع القادمة..

والأمر هكذا، لابد من توضيح بعض الأمور حول ما حدث من حيث السياق العام..

من الواضح أن الأمر الذي يجري إنجازه هو في إطار الإجهاز على آخر الحقوق المكتسبة لحقوق الطبقة العاملة من جهة، كما يجري من جهة أخرى وبالتزامن، التحضير لإلغاء دعم الدولة لأسعار الكهرباء، وهما يدخلان في إطار تقديم التنازلات المطلوبة للرأسمال الكبير الخاص المحلي والخارجي كي يقدم على الاستثمار في البلاد.. ولكن بعد كل ذلك، هل سيفعل؟

إن التجربة التاريخية لمن سبقنا على هذه الطريق، إضافةً لتداعيات الأزمة الرأسمالية الاقتصادية العالمية وتطورها اللاحق، كل ذلك يقول إنه لن يفعل.. وإن فعل، فسيعمل وفق مصالح يحددها الركض نحو الربح الأعلى التي حتماً لن تكون التوظيف في تلك القطاعات التي يحتاج إليها اقتصادنا الوطني بشكل ملحّ..

لقد أثبتت تجربتنا القصيرة السابقة أن ليس كل استثمار هو استثمارا مفيداً، بل إن هنالك استثمارات مضرة، أي بكلمة أخرى، هناك استثمارات محفزة للنمو والتطور، واستثمارات أخرى كابحة للنمو ومشوهة للتطور.. والمهم هو التحكم بتدفق الاستثمارات من أينما أتت، بشكل أن يتم الحفاظ على  التناسب الضروري في تدفقها إلى الفروع الإنتاجية الحقيقية والفروع الخدمية الريعية.. وهو ما لا يتم الآن، وإنما يتم نقيضه مع الأسف الشديد، ما عقّد الوضع الاقتصادي في البلاد..

وإذا أضفنا إلى ذلك أن العالم يعيش في خضم أزمة اقتصادية متفاقمة يوماً بعد يوم، فيجب أن نكون متأكدين أن تدفق الاستثمارات الضعيف الذي تم في الفترة الماضية سيضعف أكثر خلال الفترة القادمة..

إذاً، لماذا هذه التنازلات؟ ألن تتحول إلى تنازلات مجانية لن يستفيد منها الاقتصاد السوري، وسيكون المتضرر الوحيد هو الفئات الواسعة من السكان؟..

كان يمكن للمرء أن يجد المبرر لهذه الإجراءات لو رافق تعديل قانون العمل الإقرار القانوني بحق الإضراب للطبقة العاملة، عند ذلك كان يمكن القول إن التعديلات متوازنة، فما أخذ بيد، وكان مصاناً سابقاً بقوة القانون، أعطي بيد أخرى لأصحاب العلاقة كي يقرروا أمورهم مع أصحاب العمل..

وكان يمكن للمرء أن يتفهم رفع الدعم القادم لأسعار الكهرباء لإتمام عملية التحرير النهائي للأسعار، لو رافقه اهتمام وتفكير وتصريح بالنية لإعادة النظر بالحد الأدنى للأجور كي يصبح هو بدوره كما الأسعار العالمية.. ولو رافقه فتح سقف الأجور للاتفاق بين أصحاب العمل والعمال، إن كان بالتي هي أحسن أو بالإضراب إن لزم الأمر..

ولكن الذي جرى يقف على ساق واحدة ويتصف بعدم التوازن، ما سيخلق أرضيةً موضوعيةً لازدياد الاستياء والاحتقان الاجتماعي..

إن هذه الإجراءات والتصريحات المختلفة التي تدخل في السياق العام للمنطق الليبرالي الجديد تستفز الشعب السوري، ولكن الشعب السوري صبور.. ونذكّر الذي قال إن «صبره جميل»، أن للصبر حدوداً..

إن المواطنين السوريين مرتاحون للخط السياسي للقيادة السورية، ويؤيدونه في مواجهة المخططات الأمريكية- الصهيونية في المنطقة، ويدعمون هذا الخط بلا حدود.. وحرصاً منهم على صيانة هذا الخط وتدعيمه يفهمون تماماً أهمية الاستقرار الداخلي في هذه الظروف الخطيرة التي تمر بها المنطقة، لذلك فإنهم يضغطون على آلامهم وجراحهم، ويئنون بصمت، ولولا ثقتهم بأهمية الدور السوري في مواجهة المخططات الأمريكية- الصهيونية لكان لهم حديث آخر مع التيار الليبرالي الجديد المسؤول الرئيسي عن أوضاعهم الصعبة..

إن الاتجاه نحو ملاقاة مصالح الجماهير الشعبية واقتلاع النهج النيوليبرالي في الاقتصاد، سيدعم موقف سورية المواجهة للمخططات الأمريكية- الصهيونية أضعافاً مضاعفة، وسيحقق كرامة الوطن والمواطن..