المبدئية والمرونة.. ليكون الحوار وطنياً
الأهم من القول بضرورة الحوار والحل السياسي للخروج من الأزمة، هو الفعل والعمل على تأمين مناخ هذا الحوار. ومثلما أنّ الحوار هو شكل سلمي من الصراع بين أطراف مختلفة حول قضايا محددة، فإنّ ما يجعله ضرورة بحدّ ذاته هو الحاجة إلى الوصول إلى تلك التوافقات المشتركة الكافية لإنهاء حالة الاستنزاف والعنف الحالية والدخول في مرحلة انتقالية وتغيير سياسي يضع أسس خارطة سورية المستقبل، وبالتالي لا يمكن للحوار أن يُقلِع ويكتسب الاستمرارية الكافية لإنجاز مهمته هذه، دون استناده على أرضية مشتركة من المبادئ المتفق عليها، والتي تصلح كعقد وطني وجسر ثابت يبقي التواصل بين المتحاورين، لكي يكون اختلافهم وصراعهم حول القضايا الأخرى مثمراً، يوصل التناقضات في سورية إلى حلٍّ حقيقي يقوّيها، وليس إلى تفكيكٍ يضعفها.
لماذا التركيز على القضايا الجامعة كأساس؟
القضايا الأساسية الجامعة لأبناء الشعب السوري، والتي نتناولها هنا في تاريخيتها، أي ليست تلك القديمة منها فقط، بل المستجدة أيضاً والمتعلقة بتفاصيل راهنة ذات علاقة بالأزمة الحالية وتداعياتها، إنّما تبرز أهمية التأكيد عليها للسبب الهام التالي: إنها الأرضية الوحيدة الصالحة لانطلاق وتطوير حوار سياسي يبرز فيه أعلى تمثيل نسبي للوزن الشعبي الحقيقي، أي وزن القوى الشعبية الحقيقية على الأرض، وتمثيلاتها السياسية، وعلى اختلاف درجات تنظيمها، وهذا يعني دفع المصالح الجذرية والعميقة للشعب السوري المتعلقة بحلّ مشكلاته وتلبية حاجاته الإنسانية المادّية والروحية، لتحتل مكان الصدارة والأولوية في أطروحات الحوار ونتائجه، على أية أطروحات ونتائج محتملة تكون منزاحة عن مصالح الشعب صوب مصالح قوى دولية وإقليمية، قد تفرضها درجة التدويل التي وصلت إليها الأزمة، بسبب ما تكرر حتى الآن من تفويت لما مضى من مناسبات وشروط موضوعية، باتت الآن فرصاً ضائعة. ودرجة تلبية تلك المصالح الشعبية هي المحدد لدرجة «وطنية» الحوار العتيد. إنها بالذات ما تجعله حواراً يستحق صفة «السياسي»، بالمعنى العلمي للكلمة، والذي يعرّف السياسة بأنّها تكثيف للمصالح الاقتصادية في المجتمع.
علماً أنّ أسساً أخرى، مثل مسألة «انتقال السلطة»، و«الديمقراطية» كمحاصصة طائفية وقومية، يمكن أن تعتبر كافية بالنسبة لبعض القوى في طرفي النزاع، لانطلاق وتطوير حوار ما، يروق لها أن تطلق عليه أيضاً صفة «الوطني»، ولكنه بتنحية المبادئ والمصالح الشعبية الجذرية إلى مراتب ثانوية، أو حتى إلغائها سيكون بعيداً جداً عن أن يستحق هذه الصفة.
الثوابت الوطنية والترابط بينها
أولاً يوجد ترابط موضوعي بين القضايا الوطنية بتفاصيلها، فقضية تحرير الجولان السوري المحتل كأحد الثوابت الشعبية الجامعة، لا يمكن إلا أن ترتبط بشكل وثيق بالقضية الاقتصادية-الاجتماعية على المستوى الاستراتيجي العام، لأنّه لا يمكن بناء وتطوير المقاومة الشاملة دون تحقيق مقومات الصمود الداخلي، عبر بناء الإنسان نفسه ليكون مقاوماً، أي تأمين حاجاته المعيشية عبر التنمية والعدالة الاجتماعية، الأمر المرتبط مباشرةً بكرامته الإنسانية، وبالتالي يشكل الأساس المادّي لتأمين درجة عالية من الوحدة الوطنية بين المواطنين السوريين، بوصفهم أخوة متساوين بالحقوق والواجبات أمام القانون، وليس بوصفهم طوائف وعشائر وقوميات «متآخية».
فقضية التحرير كمسألة أمن وطني خارجي، مرتبط بالأمن الداخلي، وبالتالي فإنّ الاتفاق على نبذ الاقتتال الداخلي وحقن دماء السوريين، والتعجيل بمعالجة ملفات المصالحة الوطنية، وضمناً شقها الأمني والعسكري، المتعلق بالإفراج السريع عن المعتقلين والمخطوفين السوريين على خلفية الأحداث أو استغلالاً لها، وتوجيه طاقات الجيش العربي السوري، وكذلك الحوار مع من تسلّح من السوريين المدنيين، سواء صنفوا مع الموالين أو المعارضين، نحو البناء الداخلي والتصدي للعدو المشترك الخارجي، وعملائه وأدواته من مسلحين غير سوريين وتكفيريين.
كما أنّ الشقّ الاقتصادي-الاجتماعي للأزمة لا يمكن أن يحلّ دون طرح قضية مكافحة الفساد الكبير كأولوية ملحّة، وعلى كلّ المتحاورين تقديم تصوراتهم الواضحة والعلنية حول هذه المسألة، والحقيقة أنّها جزء من التصور العام للاتجاه الاقتصادي الذي ستسير عليه سورية المستقبل، لأنّ درجة المناعة ضد الفساد مرتبطة بنيوياً بالنموذج الاقتصادي المتبع، وهنا سيجد أنصار الليبرالية الجديدة أنفسهم في مأزق عميق، لأنّ نموذجهم أثبت أنّه الأكثر فشلاً في تحقيق تنمية حقيقية، والأكثر تسببا باستشراء الفقر والفساد والقمع معاً. وهذا ما يدفع القوى الليبرالية للحديث حول شعارات عامّة عن «الوطنية»، و«الديمقراطية»، و«الحرية»، و«تداول السلطة»، في حين أنّ الشعب يطالب المتحاورين بالعمل وتقديم الحلول والبرامج الواضحة، وعلى رأسها البرامج الاقتصادية. فالشعب السوري يستحق وطناً آمناً حراً منيعاً باقتصاد قوي، وعدالة اجتماعية عميقة تشكل مضموناً لديمقراطية شعبية حقيقية، وإنّه لقادر على إنجاز ذلك، في هذه المرحلة التاريخية، بمزيد من الإرادة والتنظيم.