ما بين الديمقراطي والاقتصادي - الاجتماعي

بذلت قوى المعارضة اللاوطنية كل جهدها للفصل ما بين المطالب في الحريات السياسية والمطالب الاقتصادية- الاجتماعية في المرحلة الأولى من ظهور الحركة الشعبية السلمية، وعملت على تقديس الأولى ضمن منطق محدّد وهو رحيل النظام وانتقال السلطة إليها، وأرجأت الثانية إلى آجال غير معروفة. ولم تتوقف تلك القوى عند هذا الحد، إذ سرعان ما انقلبت على شعارات الحريّة والديمقراطية أو الكرامة أو العدالة الاجتماعية..الخ، وأصبح الهدف هو إسقاط النظام عبر العمل المسلح والجهاد والتدخلات الخارجية.. الخ. وهمّشت تلك القيم التي انتقلت إلى سورية بوحي من الشحنة المعنوية الهائلة للحدثين التونسي والمصري، وذلك لحساب الحالة النفسية التي رافقت الحدث الليبي، التي اتسمت بطابع ثأري وندبي وموتور، يهدف إلى إبقاء الحركة الشعبية ضمن حدود الانفعال والتأثّر بعيداً عن التنظيم وممارسة التأثير الفعّال..

جدليّة العلاقة بين المسألتين:

أولا: لم تكن مسألة الديمقراطية يوماً مسألة مجرّدة وخالصة، بل لطالما ارتبطت بموقع وممارسة طبقية محدّدة، فهي منظومة من العلاقات الدستورية والحقوقية التي تضمن توزيع ثروة محدّداً، وتضمن هيمنة وقمع طبقة اجتماعية بعينها لبقية الطبقات، أي تضمن في المحصلة ديمقراطية أبناء الطبقة المسيطرة فيما بينهم، وفي الوقت نفسه ديكتاتورية هذه الطبقة على بقية الطبقات.

ثانياً: لماذا كان النظام نفسه يمارس الديكتاتورية في الحكم؟ وعلى من كان يمارسها؟ وهل كان السبب هو خرابٌ في نفوس وقلوب أركان هذا النظام؟ أم أنه كان يخدم مصالح طبقة معينة؟

تتكاثر الروايات والأقاويل والنظريّات عن الأسباب النفسية والعقد السيكولوجية التي دفعت رموز النظام إلى ممارسة القمع، وخصوصاً في وسائل إعلام البترو- دولار الناطق بالعربية، وهي نغمة سادت بكثرة إبّان سقوط القذّافي وصدام حسين. ولا يهم هنا نفيها أو إثباتها، بل المهمّ إظهار دورها الحقيقي في نشر الأوهام بين الجماهير لطمس حقيقة وجوهر الديكتاتورية، ولتمهيد الطريق أمام حكومات «الديمقراطيين» الجدد لممارسة ديكتاتوريتهم التي تتستّر خلف أقنعة أكثر قدرة على خداع الجماهير..

غالبية الحكام في الأنظمة الرأسمالية المتخلّفة يبدؤون مشوارهم في الحكم كأبناء وأصدقاء للشعب وما إن يعتادوا على ذلك ويضمنوا السلطة لأنفسهم حتى تظهر فظاظتهم الحقيقيّة فيشرعون في ممارسة النهب والكذب بشكل فجّ لا يحترم حتّى وعي الناس البسيط. أما أولئك الجدد، في المعارضات المصنّعة غربياً، فهم يقطعون عهوداً مغلّظة بأن يبقى نهبهم للشعوب خلف الستار وضمن حدود اللعبة الديمقراطية..

لا يمكن بأية حال الفصل ما بين القضية الديمقراطية والمسألة الاقتصادية- الاجتماعية كما يسعى هؤلاء، فلا يمكن على سبيل المثال إحراز تحسن في الأداء الديمقراطي في ظل درجة النهب القائمة للاقتصاد الوطني وللقمة المواطن، وبالوقت  نفسه لا يمكن ردم الهوة ما بين الأغنياء والفقراء وما بين الأجور والأرباح ضمن مستوى الحريات السياسية المنخفض القائم حالياً..

إن الديمقراطية الحديثة ومنذ نشأتها الأولى في عهد الثورة الفرنسية، حملت في طياتها إمكانية استخدامها من السلطة ومن الناس كل لمصلحته وإن لم تكن إمكانية موزعة بالتساوي، بل تميل إلى حد كبير لمصلحة أصحاب السلطة.

إن إمكانية الاستفادة من الهامش الديمقراطي والضغط باتجاه توسيعه لم تستند يومياً إلى الدعاوى الديمقراطية والعمل الديمقراطي بقدر ما استندت إلى العمل الاقتصادي الاجتماعي العام الذي يضم إلى خانة المطالبة بالحريات السياسية قطاعات أوسع فأوسع من الجماهير البسيطة والمفقرة التي لم تشعر من قبل بأهمية الديمقراطية لها، إن العمل المطلبي والاقتصادي الاجتماعي هو بالذات ما يجلب هذه القطاعات إلى ساحة النضال الديمقراطي.

بالمقابل فإن المناضلين في سبيل الديمقراطية يتعلمون من خلال التجربة أن ديمقراطية الفكر والفن والأدب التي يحاولون انتزاعها من السلطة لا تعدو كونها حلماً وردياً ينسجونه في المعتقلات، ولا يمكن تحصيله فعلاً إلا إذا تبنته تلك الفئات بالذات التي لا تهتم بادئ الأمر للشأن الديمقراطي..

إن وحدة الجانبين الديمقراطي والاقتصادي الاجتماعي لا تنحصر في جانبها العملي النضالي المباشر، بل تستمد ترابطها العالي وتماسكها من كون هذين الجانبين، في الأصل، جانبين لقضية واحدة، هي قضية نضال المجتمع لتحصيل حاجاته وحقوقه المادية والروحية من مستغليه..