الافتتاحية: وزن الداخل في الحوار

تلوح في الأفق القريب فرصة جديدة للخروج من دوامة الأزمة  السورية المدمرة تتمثل في حلٍ سياسي يبدأ بحوار تؤكد المؤشرات والمعطيات المختلفة اقترابه، وإن كانت صعوبات الخروج عديدة ومتنوعة الأشكال والمستويات، إلا أن الاستفادة من هذه الفرصة لا يمكن أن تكون في الاتجاه الوطني الجذري المطلوب دون التعامل معها انطلاقاً من إجابةٍ واضحة على سؤالين هما: لماذا لم تتم الاستفادة من الفرص السابقة؟، وإذا كان تدويل الأزمة السورية قد غدا أمراً واقعاً، فقد بات من الملح رفع وزن الداخل في الحوار القادم إلى حده الأقصى مقابل وزن الخارج، ولكن كيف؟

إن نقطة الانطلاق الأساسية في الإجابة على السؤالين هي  حقيقة موت الفضاء السياسي القديم وبداية تكون فضاء سياسي جديد، لكل عقليتهُ ولكل وظيفته، وموت القديم هنا ليس موتاً بيولوجياً ولكنه في الأساس موت للوظيفة، فالفضاء القديم لم يعد صالحاً لنقل البلاد خطوة واحدة إلى الأمام، بل هو قادر على نقل البلاد مئات الخطوات إلى الوراء، ولا يزال لذلك ينازع ويقاوم ضد أي تقدم، ولعل ظرف الأزمة باعتباره مرحلة انتقالية بين القديم والجديد هو أيضاً ملعب لكليهما، حيث الجديد يحاول خروجاً سريعاً من الأزمة والقديم يطيل عمرها على أمل العودة بالتاريخ إلى الوراء، وذلك من طرفي الصراع بعقليتهما على حد سواء.

فإذا كانت المعارضة اللاوطنية المتمركزة بأجزائها الأساسية في الخارج هي أدوات لذاك الخارج ومنفذة لأجنداته ومساهمة أساسية في إطالة عمر الأزمة، فإن من يتحمل القدر الأكبر من المسؤولية هي عقلية ذلك الجزء الفاسد من النظام، التي عملت طوال الأزمة على تأخير الحلول، فتمت إضاعة فرص عديدة من رفع حالة الطوارئ قانونياً وبقائها عملياً، إلى عدم تنفيذ توصيات اللقاء التشاوري، ومن ثم طريقة انتخابات الإدارة المحلية وبعدها مجلس الشعب التي بقيت على خشبيتها وأحاديتها، ومن ثم الائتلاف الحكومي الذي كان يجب ويمكن أن يكون حكومة وطنية شاملة وليس ائتلافاً يبتعد عن بيانه التوافقي دون حسيب أو رقيب، وقبل ذلك وخلاله تخلف الخطاب الإعلامي الرسمي وأحاديته وضعفه وتبنيه المطلق لمقولات الحسم والكسر وإلى ما هنالك..

إن المشترك بين جميع الفرص الضائعة هو التأخر في إنجاز المطلوب، وعدم القدرة على التنبؤ بالمشكلات القادمة وبالتالي عدم القدرة على استباقها، وإنما الاكتفاء – وفقاً لعقلية الفضاء القديم - بمعالجة النتائج فقط ريثما تفرج. وإلا فما الذي يبرر مثلاً التأخر في إطلاق سراح المعتقلين وتسويف قضيتهم الإنسانية أو القانونية أمام المحاكم بما يجعل من وجوه «معارضة» موجودة في الخارج «أباً» ناصراً لهم..! إن العقلية الخشبية تقدم الهدايا المجانية لمن كان يدعو قبل أشهر قليلة لتدخل عسكري خارجي.. وعلى طاولة الحوار أيضاً، ستعمل واشنطن ومن والاها على حضور ممثلي ما يسمونه «مكونات» الشعب السوري، والمقصود طوائفه، ليكون حوارنا حوار الحمائم الطائفية الوديعة الذي ينتهي إلى اقتسام البلد على الطريقة العراقية أو اللبنانية، ورغم وضوح هذه الحقيقة ووضوح ارتباطها بالنظام الانتخابي الحالي باعتباره أساساً جيداً لبناء الديمقراطية الطائفية مع بعض التعديلات، فإن ساكناً لم يتحرك ضد هذا القانون. من جهة أخرى فإنه من الواضح أن اطرافاً عديدة ستطلب ضمانات لتنفيذ نتائج الحوار وربما لكثير منها الحق في ذلك باعتبار ثقتها بالنظام معدومة، والضمانات ما لم تكن وطنية فإنها بالضرورة دولية والضمانات الدولية أياً كان الضامن هي إشراك للخارج وتنازل له بهذه الدرجة أو تلك، ولاستباق ذلك يجب التفكير سريعاً بحكومة الوحدة الوطنية وصلاحياتها في حل الأزمة كضامن للأطراف جميعاً.

يضاف إلى ذلك القضية الاقتصادية الاجتماعية التي تحاول إغفالها أطرافٌ متعددة في النظام وفي المعارضة ويتفقون ضمناً على الليبرالية الاقتصادية تحت مسماها المباشر أو تحت مسمى مشروع «مارشال السوري»، المشروع الذي يؤدي بنا إلى تبعية اقتصادية ومن ثم سياسية لواشنطن ومعسكرها، على التضاد مع التوجه شرقاً الذي يحتاج اليوم إلى إنعاش حقيقي من خلال الرد على الحصار الغربي ووضع اليد على موجودات الشركات الغربية وتأميناتها وطردها من البلد..

إن استباق المشكلات القادمة هو المدخل الوحيد لحلها، وإن أداة الحل الأساسية هي تحالف وطني عريض ضد الناهبين في النظام وفي المعارضة..