ثورات العالم الواقعي

ظهر ميل الشباب العربي نحو الإنترنت كوسيلة اتصال تعبيراً عن الرفض لقسر مستمر أمطرهم بوابل من القيود الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية التي كبّلت أحلامهم وأفكارهم وسلوكهم.

وفي ظل ذاك «الواقع الواقعي» آثر البعض الانعزال والابتعاد عن الحياة التي يتشاركونها مع الآخرين والاختباء في ثنايا «واقع افتراضي» بما يحتويه من شبكات للعلاقات الاجتماعية ومواقع للدردشة ومدونات ومجموعات مغلقة. هناك اختبروا نوعاً جديداً من الحرية لم يعتادوه.. كل شيء ممكن: استخدام أسماء مستعارة، وتغيير لاسم البلد، شكل الجسم ولون الشعر.. حتى تغيير الجنس، لتبقى الأفكار المتقاربة والرؤية الموحدة للعالم والحياة، والاهتمامات المشتركة، صلة الوصل الحقيقية الوحيدة التي وجدت طريقها للخروج إلى العلن بعد تلاشي الخوف أو الرقابة المتمثلة بالأسرة والدين ومؤسسات المجتمع السلطوية المختلفة.

إلا أن الواقع الافتراضي ذاك استمر بالتغذي من الواقع نفسه، آخذاً منه همومه ومشكلاته وشخوصه، التي كونت أرضاً خصبة للنقاش والحوار والتشارك ووضع الحلول والمقترحات.

بدأت الأفكار المتناثرة تتجمع شيئاً فشيئاً لتصبح أكثر عمقاً وتنظيماً، ليقرر معظم الشباب بعد ذلك، ترك الفضاء الوهمي الذي ضاق - على اتساعه- عليهم، والاتجاه نحو الشارع، ذاك الحاضن الحقيقي للسلوك والفعل.

هكذا بدأت ثورة مصر، «ثورة شباب 25 يناير»، وهكذا كانت: حركة شبابية انطلقت من الشباب الذين أخذوا زمام المبادرة وأرسوا أدواتهم الجديدة الحيوية والمبدعة في التعبير عن أرائهم بعيداً عن الجمود البطيء الذي كان يسم الحركات السابقة.

أما اسم «ثورة الفيس بوك» فاستخدم للدلالة على الدور الكبير الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعية في التنظيم للثورة وتنسيق الجهود ودعوات الناس للتظاهر. لكن سرعان ما بدأ هذا الاسم الأخير بالطغيان على التسميات الأخرى في محاولة لتفريغ مضمون الحركة الشبابية المصرية وتحجيمها وإبعادها عن الطابع الواقعي لها بتحويلها لمعارك وهمية لا أثر عميقاً لها على أرض الواقع.

أما في سورية، فالحراك الشعبي أخذ في بدايته تحديداً طابعاً شكلياً محاكياً للثورة المصرية من خلال المواقع التي ظهرت على صفحات الانترنت، واقتباس التسميات نفسها كـ«قوائم العار» و«أيام الغضب» وأسماء أيام الجمعة.. وعكس هذا الاتجاه الفهم القاصر لحقيقة الحراك في الشارع المصري، والذي عمل على بنائه لسنوات في الشارع وبين الناس، ليأتي الإنترنت نهاية كأداة للمساعدة في تحقيق درجة أكبر من التنظيم، ولتفعيل وتسريع بعض الخطوات النهائية في سلسلة طويلة من العمل الجاد على الأرض، المنظم والواعي والمنضبط والملتزم في أطر.

واليوم في سورية تستمر آثار هذا الفهم القاصر بالظهور من خلال المعارك الافتراضية الطاحنة بين جهات وتيارات مختلفة من الشباب السوري، والمتسمة بدرجة كبيرة من التزمت وعدم الموضوعية، والتي ترى أن النضال السياسي يتحقق بمجرد تغيير صورة الشخصية على الفيس بوك لعلم أو شعار أو خريطة، أو مشاركة مقاطع الفيديو والبيانات، أو إطلاق الشتائم والتهم بالخيانة كيفما اتفق.

ومع تعقد الظروف والأحداث التي تجري على أرض الواقع، ازداد عجز الفيس بوك وأدواته عن التعبير عن الآراء والمواقف ووجهات النظر.. كلمة «أعجبني» (like) لم تعد كافية للتعليق على شأن مهم، ولم يكن هناك في المقابل زر يمكن ضغطه في حال الغضب الشديد أو الرفض لمضمون تعليق ما. لم يعد منصفاً اختصار حديث طويل بعدة كلمات جوفاء مكتوبةَ كلغة عربية بحروف انكليزية ومتبوعة بوجه أصفر مبتسم.. بدأ الأفراد بتأويل العبارات والجمل وفهمها على نحوٍ مغلوط مسقطين ما في نفوسهم من انفعالات على كلام الآخرين نتيجة الضغط والإحباط لتتعالى الاتهامات بالخيانة والعمالة واللاوطنية.

لم يعد بالإمكان – بعد المنحى الدقيق الذي آلت إليه الأمور- الاعتقاد أن النشاط الافتراضي (رغم أهميته) يكفي لإحداث تغيير جذري في الواقع السوري، خاصة وأن الحالة التي عاشها السوريون في الأسابيع الماضية من خوف وفوضى واضطراب لم تكن افتراضية على الإطلاق، لذا لا خيار اليوم للشباب الذين يريدون لعب دور فاعل في ما يحدث سوى العودة إلى «الاتصال الشخصي المباشر» الذي لم يفقد حتى الآن تأثيره وفاعليته بالرغم من كونه الشكل الأقدم للاتصال بين البشر.

بالاتصال الشخصي المباشر وما يحتويه من أدوات جوهرية (أغفلتها أنظمة الاتصال الحديثة الأخرى) كنبرة الصوت ولغة الجسد والاتصال البصري يستطيع الأفراد تحقيق قدر أكبر من التفاعل من خلال الحوار والنقاش، وتحقيق درجة أعلى من الإقناع والتأثير والتنظيم، لتتحول بعد ذلك الأفكار إلى فعل على الأرض، ذلك أن الفعل هو الحد الفاصل الحقيقي بين عالمين واقعي وافتراضي..