الحركة الشعبية.. القيم التقليدية في مواجهة الجديد ولمصلحته!!

تسم الدراسة المنهجية لطبيعة المرحلة التي تشهدها المنطقة العربية وسورية خصوصاً بدرجة عالية من الغنى والتعقيد.. ويعود هذا التعقيد في الدرجة الأولى إلى سماكة قشرة الظاهرة، بل وتعدد طبقاتها، الأمر الذي يفرض على الباحث عن جوهر الظاهرة، عن الحقيقة، عملية طويلة من نزع الأقنعة سواءً منها المركبة قسراً من خلال التشويش المفاهيمي المستمر، أو المتراكمة والمتكدسة كالغبار فوق ظاهرة تاريخية لا تحدث إلا مرة في كل قرن، مع أن أساسها وأسبابها تختمر وتتفاعل في السر والعلن طوال الوقت..

إذاً، تحتاج الحركة الشعبية كموضوع دراسة منهجية إلى حكها ونزع الغبار عنها، ابتداءً بتجاوز وضرب التسميات الجاهزة من ثورة الفيسبوك، وثورة الشباب.. وغيرها، مروراً بمواجهة محاولات قسرها على أشكال محددة وحصرها ضمن قوالب محددة بغية إجهاضها، وصولاً إلى أسبابها الحقيقية، وتالياً فهم قانونيتها لأخذها إلى بر الأمان وصرف طاقتها الإيجابية الجبارة في عملية هدم ديالكتيكي، هدم بنّاء..

الأساس الموضوعي للحركة الشعبية العارمة والمتصاعدة يوماً بعد آخر، لا يزال متمثلاً بإرادة التغيير المستندة إلى تدني درجة رضا الناس عن النظام الذي يحكمهم في الجوانب الثلاثة التي تحدد درجة الرضا، وهي الاقتصادي-الاجتماعي، والديمقراطي، والوطني، ونقطة الانطلاق هذه تتسم بأهمية نظرية حاسمة إذ تتحدد من خلالها الأبواب الواسعة الأساسية لفهم مسببات الحراك، وتالياً أهدافه النهائية التي لما تُصغ بعد..

لعل اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين انفردت بالتحسس المبكر لإمكانية عودة الجماهير إلى الشارع، ولعلها عالجت قبل غيرها، الانعكاسات المحتملة لتطبيق السياسات الليبرالية على الواقع السوري ضمن فهمها للخريطة الزمنية لأزمة الرأسمالية العالمية. وللذهاب عميقاً في هذا التحليل لا بد من الوقوف على جانب قلما عولج بشكل مباشر، وإن تم المرور عليه أكثر من مرة، وهو البعد الاجتماعي-النفسي العام المترتب على تطبيق السياسات الليبرالية وأثره فيما يجري حالياً..

من المعلوم اليوم أن تطبيق السياسات الليبرالية في جميع الدول «النامية» أخذ شكل الرسملة المشوهة، حيث استند إلى إحداث خلل هيكلي هائل في تلك الاقتصاديات، وذلك بعد أن نمّى القطاعات الريعية على حساب قطاعات الإنتاج الحقيقي، وهذا مفهوم ضمن خريطة تقسيم العمل العالمي بين الكتل الاقتصادية الكبرى، حيث تلعب الدول النامية دور مصدر الثروات وقوى الإنتاج رخيصة التكلفة، وفي الوقت نفسه تكون سوقاً للتصريف، وليس مسموحاً لها أن تتقدم خطوة واحدة أبعد من ذلك.. الخطير في الأمر أن سيادة الريعي والمالي بالنسبة للدول الرأسمالية المتطورة جاء ضمن سياق زمني طويل نسبياً، جعل من تكيف منظومة العلاقات الاجتماعية وتالياً منظومة القيم، أمراً طبيعياً وصحياً. في حين فرض على الدول النامية قفزات خيالية في درجة الرسملة فمن مجتمعات بالكاد أغلقت الباب على آخر أشكال التبادل اللابضاعي إلى دول تبيع حتى الماء، الأمر الذي أحدث فجوة هائلة وفرق كمون أعظمياً بين القيم القديمة والواقع الجديد، فحتى وقت قريب كانت قيم الإقطاعية لا تزال تفعل فعلها في المجتمع السوري، حيث قدسية العائلة والدرجة المنخفضة لتحرر المرأة وسيادة الوجاهات والأبوية المطلقة.. وفجأة أخذت بالتهاوي بسرعة الضوء، فالأب «المشورب» الذي كان من المستحيل أن يرضى بتشغيل أي من بناته، ويعد عمل المرأة منافياً للحشمة أياً كان نوع العمل الذي ستعمله، أصبح مرغماً على القبول بعملها، لأنه لم يعد قادراً على إعالتها، وأصبح مجبراً على احتمال «المخاطر» غير الاعتيادية من انترنت وفضائيات وغيرها على «حريمه»!.. يضاف إلى ذلك ما تحمله الليبرالية للدول النامية من تفشي الدعارة والمخدرات واتساع فئة المهمشين الذين يقبلون على أي نوع ممكن من الأعمال، وما تحمله هذه الأعمال من شروخ عميقة وقاسية في بنية العلاقات الاجتماعية التقليدية، وهنا تحمل الحركة الشعبية في توجهها نحو حل «الأزمة الأخلاقية» التي ترسو كواحدة من أسبابها الأساسية وجهين متناقضين، وجهاً تقدمياً، وآخر رجعياً..

الذهاب نحو علاقات اجتماعية تعكس تعمق الرأسمالية هو أمر تقدمي بالمعنى التاريخي، لأنه يحمل في طياته إمكانية نفيها باتجاه علاقات إنسانية أكثر تطوراً وقدرة على تثمين قيمية الإنسان، إذ أن نفي العلاقات الرأسمالية ومنتجاتها في الوعي الإنساني لا يمكن أن يتم إلا عند درجة كافية من تطورها الكمي، ولكن هذا التراكم حين يفرض فرضاً خارجاً عن سياقه الطبيعي فإنه ينذر بإمكانية العودة إلى الوراء، التي لن تطول بطبيعة الحال لأن الميل العام لتطور التاريخ هو ميل صاعد دائماً، وإن مرت فيه مراحل رجعية، لكن هذه الفترات تكلف الكثير وتسبغ التطور اللاحق بتشوهات تكلف هي الأخرى الكثير والكثير للتخلص منها. ويمكن عند هذا الحد تفهم قبول الناس النسبي للسلفيين على اعتبار أنهم يقدمون أنفسهم كمخرج من «الأزمة الأخلاقية» عبر دعواتهم للعودة بالتاريخ إلى الوراء، ولذا فإن الحركة ما تزال بحاجة إلى صياغة أخلاقياتها البديلة، أخلاقياتها العصرية والإنسانية.. وهذا رهن التطور اللاحق للحركة..

آخر تعديل على الإثنين, 30 أيار 2016 12:16