الشرعيّة.. من يمنحها لمن؟؟
دأبت معظم القوى السياسية التقليدية في منطقتنا ومنذ عقود على الجري وراء رضا المنظمات الدولية والدول الغربية، ودرجت العادة لديها على تسميّة ذلك الرضا بـ «الشرعيّة الدوليّة»، هي الشرعيّة ذاتها التي أباحت في حِقب مختلفة حروباً ومجازر واحتلال أراضي ونهب ثروات شعوب بأكملها في مناطق مختلفة من العالم. وبدورنا نسأل هل القبول الدولي كفيل وحده بمنح الشرعية لقوة سياسية ما؟ وهل هذه المنظمات نفسها جديرة بإعطاء هذه الشرعية؟
من نافل القول إن المنظمات الدولية، متمثلة بمجلس الأمن والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان، لم تمارس الدور المناط بها إلا في ما ندر، ولم تكن إلا أداة بيد الدول الرأسمالية الكبرى التي تحركها كيفما شاءت بما يخدم رؤيتها ومصالحها. فأين كانت هذه المنظمات من معاناة شعوب العالم في فلسطين و البلقان وإفريقيا و غيرها الكثير والكثير؟؟ لا بل إن السقوط الأكبر لهذه المنظمات ولشرعيّتها كان في تربّع أمريكا على عرشها، وهي التي مارس نظامها الفظائع في بقاع مختلفة من العالم..
وفي ظل ترهّل و ازدواجية هذه المنظمات، مازالت القوى السياسية التقليدية العربية، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، تتبختر جيئة وذهاباً أمام أبواب السفارات وفي الصالونات الدبلوماسية متسوّلة لمنحها الشرعيّة، ومستعدّة لتقديم كل فروض الطاعة مقابل الاعتراف الدولي بها كقوة سياسية ممثلة لهذا الشعب أو ذاك. ولنا مثال على تلك القوى في «السلطة الفلسطينية» التي قدمت كل التنازلات مقابل «نصر» يتمثّل باعتراف المجتمع الدولي بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، وبغض النظر عن مدى أهمية هذ النصر إلا أنّه هزيل أمام التضحيات التي قدمها الشعب الفلطسيني عبر مقاومته للاحتلال الاسرائيلي لعقود، هذه المقاومة هي الضامن الوحيد لاسترداد الأراضي المغتصبة وقيام الدولة الفلسطينية الكاملة صاحبة الشرعية الشعبيّة والوطنيّة الحقيقيّة..
حتى في سورية، التي لاشك أنّها اليوم تتعرض إلى مستوى عالٍ من التدخلات الخارجية، نجد أن تلك التدخلات تمرّ بالضرورة من خلال التناقضات الداخلية. وتُعيد الأطراف الدولية إنتاج الأزمة مجدّداً كلما خبت نيرانها، وذلك في ظل المحصلة الصفرية لميزان القوى الدولي، وامتناع طرفي الصراع عن التقدم بجرأة نحو حلّ سياسي شامل وعميق. وبدلاً من اللجوء إلى الداخل لحل الأزمة السورية المعقّدة نجد أن جلّ نشاط المعارضة والنظام ينصب في إدارة السجال بإتجاه الخارج، سواء من ناحية سياسية أو إعلامية..
فعلى سبيل المثال، إذا استثنينا من قوى المعارضة ذلك الجزء اللاوطني المعدّ أساساً لجلب التدخلات الخارجية، نجد أن جزءاً يسيراً من قوى المعارضة الوطنية يحبّذ منابر الخارج على الداخل، سواء في المؤتمرات واللقاءات والظهور الإعلامي وحتى بعضاً من النشاط السياسي، ويمارس بشكل فاقع ازدواجيّة في المعايير حينما يرتضي على نفسه إنشاء علاقات مع دول عربية وغير عربية ذات أنظمة رجعية وديكتاتورية ويقبل الظهور والنشاط على منابرها الإعلامية والسياسية..
النظام بدوره ومنذ البداية وضع الأزمة في عهدة الخارج، من خلال تركيزه على مسألة المؤامرة فقط وتجاهل الثغرات الداخليّة، ولا يزال حتى اليوم يتعامل مع الأزمة من زاوية التوازنات الخارجية، فهو بدلاً من الشروع الحقيقي في عملية الحوار السياسي والمصالحة الوطنية- التي لها مبادئها الواضحة ويتعذّر أن يتقدّم الحل السياسي الشامل دون إنجازها- يلجأ إلى تصوير الوضع على أحسن حال، وإقامة نماذج ممسوخة للوحدة والمصالحة الوطنية ما بين المكونات الطائفية للبلاد وليس ما بين المكوّنات السياسية والوطنية..
ففي المحصّلة تحتاج الأزمة السورية إلى حل داخلي في ظل استعصاء العامل الخارجي، وليس إلى «شرعيّات» من مجلس الأمن أومحاكم دولية حريُّ بها أن تحاكم قادة الغرب ممن شنّوا الحروب على يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا والقائمة تطول..
والجديد اليوم الذي يخفى على مثل هذه القوى، ليس على مستوى سورية فحسب بل على مستوى العالم أجمع، أن النظام الدولي العالمي بدأ يتغيّر على وقع أزماته المتلاحقة في «بلدان الشرعية» ذاتها، أوربا أمريكا، والجماهير عادت لتسأل أنظمتها والنظام العالمي بأسره عن شرعيّته ذاته، فهل يمنح الشرعيّة فاقدها؟؟
لقد عادت الجماهير لتكون فاعلة على الساحة السياسية، ولكي تنجز المهمات التاريخية والمتراكمة التي عجزت البنى القديمة عن إنجازها. وإن أية قوة سياسية جادة تسعى لتمثيل حقيقي لها على أرض الواقع عليها أن تتجه أولاً نحو قضايا شعوبها وتعبّر عن مصالحها العميقة قبل كل شيء..