«صرنا نحكي سياسة!»
في سورية، ما عادت العصا بقادرة على كسب ود حاملها، لأنها لم تعد كما كانت في السابق أداة أمضى في سبيل إخضاع المنهوب لسطوة الناهب. والعصا اليوم ليست حرة في اختيار واقعها هذا، فمنطق التاريخ أثبت أنها لا تعدوكونها إحدى الرياح الذاهبة برفقة مادةٍ ثامنة لم تقوَ على البقاء مطولاً أمام حراكٍ شعبيٍ سلمي خرج في أيامه الأولى ليعلن أن المنهوبين قد ضاقوا ذرعاً من سطوة العصا على رقابهم. البعض هلّل واستبشر واعتبر دخول السوريين في حيّز النشاط السياسي هوغاية منتهى الحركة الشعبية، وبعضٌ آخر ذهب في حماسته العالية حدَّ اعتبار هذا الدخول هوثورة مكتملة الفصول وناجزة..
واحدة من أدوات كثيرة
لكلِّ مجتمعٍ في العالم بناءان يرسمان حقل البحث والتحليل للوصول إلى نتائج واضحة تُحدد جوهر الصراع فيه. بناؤه الأول وهوالبناء التحتي، المُعبَّر عنه اقتصادياً بنمط علاقات الانتاج وشكل توزيع الثروة التي يتسم بها هذا المجتمع، فمن خلال إدراك واقع البناء التحتي هذا يمكن الإجابة عن التساؤل حول ماهية الشريحة المستفيدة من الشكل المتَّبع لتوزيع الثروة. ويشكّل البناء التحتي الأساس الواقعي الذي على أساسه يقوم البناء الثاني، وهوالبناء الفوقي الذي يشكّل مجموع الآراء السياسية والحقوقية والثقافية والفلسفية...إلخ.
إن البناء التحتي لا يجد الاستقرار إلا بوجود ذلك الفوقي الذي يساعده على الاستمرار والتطور، لذلك في المجتمعات التي تنهب فيها الأقلية القسم الأكبر من الثروة تعمد هذه الأقلية المستفيدة إلى العمل الحثيث على ترسيخ البناء الفوقي الذي يضمن استمرار النهب الحاصل في البناء التحتي. وفي الحالات التي يستعصي عليها فرض الآراء السياسية والحقوقية والثقافية والفلسفية عبر العصا، تعمد إلى تغييرات في البناء الفوقي من حيث الشكل والإبقاء على الدور الداعم الذي يلعبه في خدمة بنائه التحتي من حيث الجوهر، بمعنى آخر أنها تُغير أدواتها في سبيل الهدف ذاته..
في الحالة السورية، يظن البعض ممن يعتبر «الكلام في السياسة» غاية وليس وسيلة أن نفاذ مفاعيل القمع عبر العصا هومؤشرٌ يمكن الاستناد إليه للقول بأن البلاد قد دخلت حتماً في تلك الحالة التي أصبحت فيها الأقلية الناهبة عاجزة تماماً عن تنفيذ سياساتها الرامية إلى ضرب مصالح الأكثرية المنهوبة. بينما في الواقع، إن سقوط العصا هوسقوط لأداة واحدة، واحدة فقط، من أدوات القمع المتعددة بتعدد الظروف الموضوعية التي تحكم بنية المجتمعات.
القمع بالتراضي!
يأخذ الميل العام باتجاه الحل السياسي مداه في سورية بعد دوامة العنف التي أُغرقت فيها البلاد والشعب، وإن اتجاه مختلف القوى السياسية نحوالحل السياسي هذا، بما فيها قوى التشدد في كلا الطرفين، بعد التأكد من استحالة تحقيق النصر عبر السلاح، لا يعني أن هناك تغييراً ما طرأ بين ليلة وضحاها على الأجندات السياسية التي تحملها هذه القوى، إنما هوفي الحقيقة تعبيرٌ عن تغيير طريقة التنفيذ بما يتلاءم والمتغير السياسي الناشئ..
تسعى قوى النهب والفساد في الطرفين «الموالي والمعارض» إلى تغيير إحداثيات الصراع بما يضمن الإبقاء على شكل توزيع الثروة الحالي، وقد يجدون ضالتهم في مشروع «الديمقراطية الطائفية» الذي يضمن تحاصص موارد سورية ما بين فاسديها، وهذا ما يُفسر الدعوات المتكررة إلى ضرورة تمثيل كل «مكونات» الشعب السوري في الحوار والحل السياسي..
ترى قوى الفساد التي تروج لهذا الشكل من «الديمقراطية» أنه يضمن تحقيق عاملين أساسيين، الأول أنه يؤمن الاستمرار في نهب موارد البلد، والثاني هوقبول أولئك الذين يعتبرون «الكلام في السياسة» غاية وليس وسيلة به. ولهذا تسعى إلى تعميم المفهوم المشوه عن الحرية والمتمثل في أنه «من حقك أن تعترض على كل شيء بحرية مطلقة، لكن ليس بوسعك تغيير شيء!» بحيث يصبح النضال ضد التحاصص، هوتآمر على أسس «العيش المشترك»..
من هنا، إذا ما أردنا تحقيق التغيير الجذري الشامل في بنية النظام السوري، فإن ذلك مرهون بمدى التصدي لمشاريع القمع بالتراضي التي يتم الترويج لها اليوم تحت مسميات تجميلية شتى. وإن الرهان على تحقيق هذا التغيير هوخاسر ما لم يضع صياغة النموذج الاقتصادي الجديد الكفيل بإعادة توزيع الثروة لمصلحة الأكثرية الشعبية في أولى المهمات التي يجب النضال لإنجازها، «فلن يشبع الجماهير الجائعة أي قدر من الحرية السياسية».