«الضربات القاضية».. ممنوعة!
يتجاوز متابعو الشأن السياسي السوري بمعظمهم، وشيئاً فشيئاً، الطروحات الساذجة حول «التحاصص الروسي- الأمريكي» لسورية، لكن ما يعيق خروجهم النهائي من هذه الطروحات إذا استثنينا أولئك الذين يعرفون خلبيتها ويستخدمونها في إطار البروباغاندا السياسية هو تصورات بالية عن شكل الصراع الدولي وطرق تسويته وإنهائه..
مهند دليقان
إنّ القول بالصراع الروسي- الأمريكي، هو المدخل الأساسي لفهم «التوافق الروسي- الأمريكي»، لكن هذه الموضوعة وحدها ليست كافية للوصول إلى نتائج صحيحة، فطبيعة الصراع وأسبابه وآفاقه وأهدافه وظروفه هي التي تبين وتفسر «التوافق»، وحتى «الاتفاق»، وحدودهما في ملفات بعينها، كالملف السوري.
يكمن في أساس الصراع الروسي- الأمريكي عدد من النقاط الأساسية التي باتت واضحة لكل متابع: الأزمة الرأسمالية العالمية الضاربة في عمق المركز الإمبريالي، التقدم «البريكسي» والتوازن الدولي الجديد، وما ينجم عن هذين الخطين من ضرورات موضوعية لترجمة الأوزان الجديدة واقعاً دولياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وإلخ.
«قياس شكلي»
رغم ذلك، فإنّ في المسألة ما هو أكثر عمقاً وتعقيداً، ذلك أنّ مقارنة شكلية بين ما يجري راهناً وبين الحرب العالمية الأولى مثلاً، وهي حرب أعادت تقسيم النفوذ وتقسيم العمل الدولي بين ضوارٍ كبرى في حينه، ربما تقود التفكير نحو قياس شكلي يخرج بنتائج من قبيل: «بما أنّ حرباً مباشرة لاقتسام النفوذ أمر غير ممكن، فلتكن الحروب البينية والأزمات، وليكن التقسيم وإعادة التقاسم انطلاقاً من تلك الحروب ونتائجها» وعليه فإنّ الوضع الذي وصلت إليه سورية يوفر عتبة تكشفت فيها قوى الطرفين الدوليين المتصارعين بما يكفي من الوضوح ولذلك فهو يسمح بالمضي نحو «تسوية تقاسمية». وإن لم يصل بعد إلى هذه العتبة، فالحرب مستمرة حتى انتصار أحد الطرفين نهائياً، أو إلى حين تكتمل قناعتهما بالحدود التي ينبغي لكل منهما الوقوف عندها. هذه الطريقة بالتفكير والاستنتاج، هي بالضبط ما نصفه بالتصورات البالية.. لماذا؟
معطيان حاسمان
فلنضف لقاعدة المعطيات أمرين هامين يبعداننا عن القياس الشكلي، ويقرباننا من الواقع الملموس أكثر.. أولاً: الفاشية الجديدة، وثانياً درجة عمق واتساع الأزمة الرأسمالية العالمية.
يطوّر العامل الأول «القياس الشكلي»، فيجعل من الحرب العالمية الأولى مقياساً بالياً، ومن الثانية مقياساً أكثر دقة من سابقه، وإن كنا نرى أن دقته لا تزال هشة. ما جرى في الحرب العالمية الثانية، هو أنّ الصراع الدولي تحول عند نقطة محددة من تطوره، وتحت ضغط «خطرين» هما إمكانية انتصار الاتحاد السوفييتي منفرداً على الفاشية، و«خطر» الفاشية نفسها على الغرب الذي أنتجها للخروج من أزمة 1929، تحول الصراع إلى «توافق» على الإجهاز المشترك على الفاشية بعد أن أدت قسطاً هاماً من مهمتها بإلحاقها دماراً هائلاً بالاتحاد السوفييتي. نتج عن هذا «التوافق» نمط من «التقاسم» من نوع جديد، إذ لم يكن هذا تقاسماً تقليدياً بين ضوارٍ رأسمالية، بل كان انتزاعاً لمناطق من تحت سيطرة النهب الرأسمالي وباتجاه زاوية من زوايا «عالم جديد» اشتراكي ظهر في حينه.
عند هذا الحد من القراءة، وبالأخذ بعين الاعتبار ظهور الفاشية الجديدة كتعبير عن الأزمة الجديدة، يمكن الافتراض بأنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه جزئياً بتوافق جديد بين المستهدفين من الفاشية بشكل مباشر، روسيا والصين، وبين منتجيها المهددين بخطر تمددها اللاحق. لكن روسيا والصين ليستا اشتراكيتين هذه المرة، فما المانع من العودة إلى شكل التقاسم القديم، تقاسم الحرب العالمية الأولى؟ إنّه العامل الثاني: درجة عمق واتساع الأزمة..
الأزمة الراهنة وعمقها
إنّ بين أهم سمات الأزمة الحالية للرأسمالية هي انفجارها في ظل انتهاء إمكانيات التوسع الأفقي المختلفة، فالأرض التي كانت الرأسمالية تنهش قطعاً إضافية منها مع كل أزمة تخرج منها ترسملت حتى النخاع، وكذلك فإنّ إمكانيات التوسع العمودي بتعميق التمركز والنهب الذي وصل حسب تقارير الألفية «الملّطفة» التي أصدرتها الأمم المتحدة مؤخراً إلى حد أن 1% الأغنى يحوزون أكثر من نصف الناتج العالمي، ما يعني أنّ عمليات تجديد الانتاج، البسيط منه قبل الموسع، باتت مهددة بحكم تراجع الاستهلاك.
ثمة سمة إضافية تلعب دوراً له أهمية مباشرة في الصراع الجاري، وهي عدم وجود مركز إمبريالي بديل، فالحروب الكبرى السابقة شهدت انتقال المركز الإمبريالي من مكان إلى آخر، وما أتاح هذه العملية في حينه هو أن التوسع الأفقي لم يكن قد انتهى بعد، كما أنّ فائض الانتاج كان في خطواته الأولى نحو التحول فائض سلاحٍ ومال، أضف إلى ذلك أنّ المنظومة المالية- النقدية- الاقتصادية العالمية كانت لا تزال متحركة وغير ثابتة المعالم، الأمر الذي اختلف كلياً بعد بريتين وودز 1944 وبعد استكمال بناء منظومة الاستعمار الجديد- الاقتصادي القائم على التبادل اللامتكافئ أواسط الستينات، وبعد تحقق درجات تمركز خيالية للثروة والسلطة. بكلام آخر فالرأسمالية بدخولها المرحلة الإمبريالية كانت لاتزال في بداية تعفنها وترهلها الذي وصلت ضمنه مراحل متقدمة جداً منذ الستينات جعلتها «عديمة الرشاقة»، وجعلت مسألة خلق مركز إمبريالي جديد مسألة مستحيلة.
«دفاع إلزامي»
إنّ هذه السمات بمجموعها، تجعل من دول «بريكس»، وروسيا والصين خاصة، والمستهدفة بابتلاع كامل من واشنطن ووحوشها الفاشية الجديدة، تجعلها واقفة في وجه واشنطن حتى النهاية لا من موقع «المنافس» و«المحاصص»، بل أساساً من موقع المدافع، وهذا «المدافع» بدفاعه عن نفسه مضطر لكسر المركز الإمبريالي الذي ليس بمقدوره موضوعياً أن يكون بديلاً له.. وعملية الكسر هذه تتطلب تطويق الاستعمار الجديد وآلياته وإنهائه، كما تتطلب ضرب الفاشية الجديدة بدقة جراحية عالية يجري عبرها الفصل اللازم بين الفاشية الجديدة وبين «التيار العقلاني» ضمن المركز الغربي، والمستعد للتكيف مع عملية التراجع الموضوعية..
عملية الفصل هذه، هي حرب نقاط ممنوع استخدام الضربات القاضية فيها، لأنّ استخدام ضربات من هذا النوع يوحد الجسم الإمبريالي مجدداً وينقل المعركة نحو دائرة الخطر النووي المدمر عبر الصدام المباشر.
«منظومة ثالثة»
بذلك فإنّ عملية «التقاسم» أو «التحاصص» تأخذ شكلاً ومضموناً جديدين بالكامل، فلا تغدو اقتساماً ولا تحاصصاً، بل إخراجاً لقسم من العالم من منظومة النهب والتبعية، منظومة الاستعمار الجديد، إلى منظومة ثالثة ليست اشتراكية، وليست رأسمالية تقليدية، بل منظومة تضم «بلدان العالم الثالث» في ظل ما يشبه انعدام الوزن البرنامجي، فلا الوصفات الرأسمالية نافعة في إخراج هذه البلدان من تحت أنياب المركز الغربي، وهو أمر مطلوب روسياً-صينياً، لأن استمرار هذه الحال يعني وصول الأنياب إلى قلوب الروس والصينيين، ولا توجد أيضاً «وصفات اشتراكية» جاهزة، وروسيا والصين ليستا بوارد دعم مثل هذه النماذج أصلاً، لأنهما لا تزالان هما نفسهما رأسماليتان، ولأن وصفات من هذا النوع تندرج تحت نوعية «الضربات القاضية» الممنوعة..
«الفوز بالنقاط»
ولذلك فإنّ جملة من «بلدان العالم الثالث»، يبدو أن سورية ستكون أولها، ستخرج من كونها أطرافاً اقتصادية للعالم الغربي، ولن تصبح بالمقابل أطرافاً لـ«عالم شرقي»، بل ستعوم مؤقتاً ولفترة غير طويلة بالمعنى التاريخي باتجاه برنامج يفرضه الزمن لا عليها وحدها، بل وعلى الروس والصينيين أيضاً، برنامج يحقق أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو، يتم السير إليه بالسرعة المناسبة، وبـ«النقاط»، برنامج ليس له من تسمية أفضل من «الاشتراكية»..!