العنف إذ يغيّر وجه البلاد..
هو المشهد ذاته يتكرر كل يوم. دخان يتصاعد من المناطق المختلفة، دوي القذائف والمدافع يعلو، حواجز كثيرة، نشرة الأخبار لم تزل بمفرداتها المعتادة من ذبح وقتل و«حسم وتطهير» .. البلاد تئن تحت وطأة المعارك والاشتباكات، مدن وأحياء دُمرت، بيوتٌ خلت من ساكنيها. ما يحدث ليس بغيمة صيف، بل هو أزمة شاملة واسعة، السائد فيها اليوم هو «العنف» بكل تلاوينه وأنواعه..
لعل هذه المرحلة التي تمر بها سورية من أكثر المراحل حساسية وخطورة وتعقيداً. فدوامة العنف والعنف المضاد التي قادنا إليها متشددو المعارضة والنظام سترخي بظلالها لسنواتٍ كثيرة قادمة..
بالعودة قليلاً إلى بداية الحراك الشعبي السلمي في سورية، نجد أن محاولات إجهاضه لم تتوقف للحظةٍ واحدة، فقوى الفساد داخل النظام سعت لقمعه بكل الوسائل، وشركاؤهم في المعارضة اللاوطنية سعوا لحرف الحراك الشعبي عن مساره وأهدافه التي ما كانت تدعو سوى للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فقد جرى توريد السلاح من كل حدب وصوب إلى مقاتلي تلك المعارضة، بالإضافة الى السعي الحثيث لإشعال فتيل النزاعات الطائفية والعشائرية، والعمل على إغلاق الأبواب أمام الحوار والحل السياسي الذي كان وما زال هو المخرج الوحيد الموضوعي والآمن من الأزمة. إلا أنه كلما زاد منسوب العنف والاقتتال، زادت التكلفة التي يدفعها الشعب السوري دماً ومالاً وحاضراً ومستقبلاً للوصول إلى المخرج الآمن. بما يخدم مصالح وأجندات خارجية وداخلية هدفها تفتيت كيان المنطقة وسلب مقدراتها..
مهمة العنف
إن للعنف الحاصل في سورية نتائج كارثية على كل الصُعد، ستستمر إلى ما بعد الخروج من الأزمة، فكما يقال من السهل البدء بالحرب، ولكن من الصعب إنهاؤها ومحو آثارها. سياسياً، كانت مهمة العنف الأولى هي القضاء على التطور الموضوعي للحركة الشعبية السلمية، التي من المفترض أن تنبثق عنها حركة سياسية جديدة. إلا أن التعقيدات التي سببها العنف والعنف المضاد ستزيد الأمور صعوبةً.فمن الممكن أن يتأجل في المرحلة القادمة أي حديث عن الفقر والبطالة والنمو والعدالة الاجتماعية، وغيرها من المطالب الأساسية، أمام ما هو أكثر خطورة وأهمية كالحفاظ على وحدة كيان البلاد، ومعالجة قضايا المهجرين والمفقودين، وإعادة إعمار ما تهدم وخُرّب. أما على المستوى الشعبي والاجتماعي، فالأضرار المادية والنفسية والثقافية التي لحقت وستلحق بالغالبية العظمى من السوريين نتيجة العنف لها حصة كبيرة من الأزمة.. عائلات سورية كثيرة اضطرها تمترس البعض وراء أحقادهم وأوهامهم الى ترك منازلها لتفترش الأرصفة والحدائق العامة، لا يقيها من برد الشتاء سوى بعض الملاءات والقطع البالية. ليصبحوا مادة للاستهلاك السياسي في وسائل الاعلام وجمعيات حقوق الانسان، دون أن تُمدّ لهم يد العون الحقيقية.. كل هذا لن يمر مرور الكرام في تاريخ سورية المعاصر، فهو سيدخل لا محالة كعنصر له تأثيره السلبي في مستقبل السوريين..
هوية المناطق السورية
ومع استمرار الانجرار نحو المزيد من العنف، تغيرت الملامح الجغرافية والاجتماعية للمناطق السورية المختلفة. مدن كثيرة فقدت هويتها المتعارف عليها، كمدينة حمص مثلاً، التي كانت خاصرة البلاد واستراحة مسافريها، أمسى طابعها غائباً عنّا، الطابع الذي لا يخلو من مسحة البساطة والمرح، بعدما انشغل أهلها بمعاناتهم وتبعات الأزمة عليهم. ومدينة حلب «الشهباء»، طريق الحرير ومقصد التجار منذ الأزل، ومبتغى الفقراء لرخص أسعار بضائعها، العاصمة الاقتصادية لسورية. أحالها عنف المتصارعين إلى مدينة مهشمة المعالم في معظمها، خالية من مصانعها التي نُهبت على أكمل وجه، مقبلة على حقبة مختلفة عما عهدناه، لا يعلو فيها سوى صوت الرصاص والسلاح..
الفوضى والإجرام
وللعنف أيضاً تبعاته الخطيرة، التي تتجلى في انتشار الفوضى والغوغاء. فكان ملحوظاً انتشار العصابات الإجرامية، مستغلة غياب القانون وانشغال الأجهزة الجنائية بالصراع الجاري، لتقوم بأعمال السرقة والسطو والتهريب والقتل والخطف لمآرب مادية بحتة أو ثارات شخصية. كما يتطور دور العنف لما هو أخطر، وهو النيل من مفهوم المواطنة، ليصبح الولاء للهوية الطائفية أو المناطقية سائداً، على حساب الهوية السورية، مما يشكل تهديداً حقيقياً على الوحدة الوطنية للبلاد التي تتآكل يوماً بعد يوم مع استمرار الأزمة.
إن فشل التدخل الخارجي العسكري المباشر، بفعل التوازن الدولي الجديد فرض على القوى الخارجية، مع أعوانها في الداخل، تغيير الخطة القديمة والاستعاضة عنها بخلق حالة من العنف والفوضى المستدامة، التي من شأنها رسم خريطة المنطقة من جديد لما يناسب أهواء الطامعين ومصالحهم. لكن مع وصول العنف الى سقفه الأقصى دون أن يحقق أحد أطراف الصراع مبتغاه وأهدافه من«اسقاط النظام» أو«الحسم العسكري» يصبح لزاماً على السوريين الوطنيين أياً كان موقعهم، اتخاذ موقف عملي ضد العنف، وحث الخطى للبدء بالعملية السياسية لتخفيض الثمن على البلاد والعباد..