الهيمنة عبر التوافق..
يعتقد البعض أن الطريقة العسكرية هي الوحيدة للحكم ولتنظيم المجتمعات، وأن هيمنة أي نظام سياسي ينبغي أن تتحقق بالشكل العسكري المباشر، وهذا وهم شائع مناف للحقيقة. فلا تستطيع أية قوّة سياسية أن تحكم وتسيطر، وأن تفشل كل المؤامرات التي تحاك ضدها بالقوة العسكرية وحدها. فهذه الأخيرة لا تشكّل إلا مجرد أداة، قد تحقق الهيمنة وقد لا تحققها، ولم تكن قط غاية في حدّ ذاتها. لذلك نرى بعض القوى السياسية التي تتبنّى معتقدات كهذه ترسم بشكل دائم صورتها كقوّة سياسية تتنطع لمهمة حماية الشعب الضعيف، الذي لا حول له ولا قوة وغير مؤهّل لإعطاء الشريعة للقوى السياسية الحاكمة..
تجاوزت الأزمة السورية من حيث العمر الزمني العشرين شهراً لتفضح التناقضات الكبرى التي تعانيها البلاد، السياسية منها والاقتصادية- الاجتماعية المتراكمة على مر العقود السابقة، ولتنذر في الوقت ذاته القوى الوطنية في النظام والمعارضة على ضرورة وضع حل للأزمة قبل فوات الأوان.
ويدعي المتشددون في النظام والمعارضة، في خضمّ هذه الأزمة، أن بمقدورهما تحقيق الحسم العسكري، مستندين في ذلك إلى مزاعمهما في أن كلاً منهما ممثل شرعي للشعب السوري ويكسب تأييده ويحوز احتضانه. لكن الحقيقة على الأرض تقول عكس ذلك إذا نظرنا إلى الانقسام الحاصل على مستوى الموقف الشعبي، أو إلى التقلبات في المزاج الشعبي التي تفرضها الضغوطات اللحظية واليومية والواقع المتردي على مستوى المعيشة والخدمات. إلا أن الناس لا تزال تتفق على قضايا جامعة وملموسة تتعلق بلقمتها وكلمتها وكرامتها الوطنية، وهي تنطلق من هذه القضايا بالذات في محاولة تأييد هذا الطرف أو ذاك، والتأكّد من نواياه..
كيف تتحقق الهيمنة؟
الهيمنة بشكل أساسي هي توافق يحصل بين الطبقات الاجتماعية حول مسألة توزيع الثروة والسلطة بينها، وحول الصيغ السياسية لهذا التوزيع، وبالتالي حول طبيعة النظام السياسي والاقتصادي- الاجتماعي الذي يحكم. هذا التوافق لا يعني الوئام بين الطبقات الذي يظهر شكلاً، بل هو عكس ذلك بالضبط، هو تنظيم لعملية الصراع بين الطبقات، اتفاق على تقاسم المواقع في ساحة الصراع الطبقي. ومن المعلوم أن هذا الأخير يرتدي مختلف الأشكال- لا يشكّل الصراع المسلّح إلا أحدها- وعلى هذا الأساس تنشأ الأنظمة السياسية في التاريخ، ومنها النظام في سورية.
نشأ النظام السوري السياسي الاقتصادي الحالي على أرضية التوازنات الداخلية والدولية. سياسياً كانت صيغة التوازن هي المادة الثامنة من الدستور القديم، وصيغة الجبهة الوطنية التقدمية. اقتصادياً استمدّ شرعيته من قانون الاصلاح الزراعي والتأميمات التي أجراها، وبعض المكتسبات التي قدمت للطبقة العاملة وللبرجوازية الصغيرة في سورية. هذه الصيغة التي أقامت التوافق حوله دامت على مر العقود الماضية حتى بداية إخلاله بها، وهذا شكّل الانطلاقة الفعلية للأزمة قبل انفجارها، فمنذ أوائل التسعينيات بدأت التراجعات على المستوى الاقتصادي والسياسي، وتعززت مواقع الفساد داخل النظام، وصولا إلى تبني السياسات الاقتصادية الليبرالية. كانت بداية هذه التراجعات هي بداية لنهاية التوافق الاجتماعي حوله بمعنى بداية انتهاء أجل النظام السياسي والاقتصادي الذي مازال موجوداً بحكم العطالة.
هذا التحليل يخالف تحليلات رموز المعارضة اللاوطنية التي تقدم تفسيرا غير منطقي عن نشوء النظام، وتقول إنه نشأ بالقوة والديكتاتورية، وتلغي دور الجماهير في النظام القديم، بل وتخلط في ذلك بين النظام وبين جهاز الدولة الذي دفع الشعب ثمنه عرقاً ودماً، وتدعو ليل نهار إلى تدميره..
نهاية التوافق القديم..
حققت الطبقات الاجتماعية السورية توافقاً أنتج النظام القديم خلال الأربعة العقود الماضية، لكن ما تغير هو أن قوى الفساد الموجودة في جهاز الدولة قد دفعت باتجاه الليبرالية الاقتصادية والخصخصة، ونجحت في مساعيها هذه، ما أدى إلى ازدياد حدّة التناقضات الاجتماعية والسياسية فكان الانفجار الشعبي كتعبير عن تلك التناقضات.
ويتطلب الخروج الآمن من الأزمة في المقابل إلغاء المادة الثامنة القديمة على أرض الواقع، وليس في الدستور فقط، لوضع الصراع على سكته الصحيحة، بما يسمح بتحقيق توازنات جديدة في المجتمع السوري بين طبقاته وقواه المختلفة، هذه التوازنات ستنتج النظام السياسي الجديد.
إن الحوار الوطني وبناء الإطار القانوني والسماح للمجتمع بالتعبير عن قضاياه هي الطريقة الوحيدة لبناء نظام جديد وإخراج البلاد من حالة الانقسام الوهمي التي لن تنتج الا الفوضى والدمار..