في البدء كانت الكلمة.. حتى في السياسة!
لأنها «في البدء كانت»، فالكلمة أساس لا يمكن البناء دونه، والكلمة جذر الفكرة ومبتدؤها.. لن نناقش هنا قوة الكلمة وقوة تأثيرها من جانب قوة الفكرة، ولكن سنناقش قوة الكلمة المفردة، الكلمة- الاصطلاح، الكلمة- المفهوم، وسنقصر النقاش على السياسة الجارية الخاصة بسورية وعلى بعض مفرداتها فقط..
أكد غرامشي مراراً على أن قدرة العدو الطبقي أو الوطني على التحكم بمسارات حركتنا تحتاج قبل كل شيء إلى درجة عالية من الهيمنة على طرق تفكيرنا، وهذه الأخيرة تحتاج قبل كل شيء إلى كلمات محددة هي اصطلاحات ينتجها العدو ويقدمها لنا كوصف «موضوعي» لواقعنا، ويكفيه أن يقف عند هذا الحد، فإذا اعتمدنا اصطلاحاته دخلنا في جملة تأثيره وضمن مسبقاً النتائج التي سنصل إليها من ربط مجمل الاصطلاحات.. ولا يهمه أبداً أي طريق سنسلك في صياغة الفكرة، فما دام المصطلح مصطلحه فالنتيجة مقررة مسبقاً. يبدو مثل هذا الاستنتاج ضرباً من الشعوذة، لكنه يستند فعلاً إلى أن الكلمة كانت في البدء وإلى أن الكلمة هي جذر الفكرة، والفكرة هي مبتدأ الفعل الواعي، ولعل بعض الأمثلة من جاري السياسة السورية كفيل بتبيان هذه الحقيقة..
معارضة مسلحة- جيش حر
تستخدم بعض الوسائل الإعلامية تعبير «المعارضة المسلحة» في مقابل تعبير «الجيش الحر» الذي تستخدمه وسائل أخرى. إن الفرق بين الاصطلاحين كبير في نتائجه، مع أنه في تقييمه الأولي اختلاف بسيط.. إن «المعارضة المسلحة» تترك حيزاً ما وهامشاً ما لمعارضة غير مسلحة، وتجعل نهج التسلح أحد نهجين، ولا تحسم الأمور نظرياً لمصلحة التسلح، في حين أن اصطلاح «الجيش الحر» يتضمن حكم قيمة هو «حر» ويجعل الجيش الآخر غير حر، وبالتالي يستخدم وصف مدح مقابل وصف ذم، ويسبغ المدح والقبول على التسلح نفسه، ويجعل غير المسلح نافلاً بل وضاراً. من جهة أخرى فإن وصفه بالجيش يجعل منه حالةً مكتملة الوجود والشرعية، ويسمح بالتالي ببناء أفكار من نوع «اسقاط النظام» عسكرياً، والمعلوم أن «الجيش الحر» يقاتل كمليشيا بالمعنى العسكري، ومصدر قوته بالذات هي طريقة قتاله كمليشيا.. وحين يصبح بناء التصورات السياسية منطلقاً من «واقع» وجود جيشين في بلد واحد فإن التتمة المنطقية هي اندحار أحدهما، وهذا ما يؤدي إلى استعصاء قد يودي بسورية كلها..
نظام- دولة
يصر الإعلام الرسمي على المطابقة بين النظام والدولة، فنراه يقول، بمناسبة وبغير مناسبة، استهداف للدولة، تهديد للدولة، محاولات إسقاط الدولة.. الخ، وتخدمه في هذا التوظيف كلمة أخرى هي المؤامرة التي تحول الداخل إلى كتلة صماء تواجه الخارج، وتلغي بالتالي العوامل الداخلية أو تنحيها إلى مراتب متدنية، وتستكمل انصهار النظام بالدولة.. إن البناء على أن النظام هو الدولة، يعني أن من يريد إسقاط النظام يريد ضمناً إسقاط الدولة، وهو لذلك خائن ويجب تصفيته أو اعتقاله.. إن مقولة معي أو ضدي تصبح نتيجة حتمية بعد البناء على «الدولة = النظام»، وينتج ما هو واقع، الانقسام الحاد بين موالاة ومعارضة، انقسام ضد مصالح جميع السوريين وضد الدولة!
بالمقابل فإن الإعلام «المضاد» عمل على تكريس ضياع البوصلة، بحيث أصبح جيش الدولة هو جيش النظام، ومؤسسات الدولة هي مؤسسات النظام، ومخابز الدولة هي مخابز النظام.. والخ، الأمر الذي يسمح بالنتيجة إلى تدمير الدولة بحجة تدمير النظام..
الإرهاب وجبهة النصرة
الأدهى والأكثر خبثاً هو مصادرة ظاهرة متحركة قبل أن تنهي تمايزها.. إن اعتبار جبهة النصرة إرهابية من جهة الأمريكان، مبررة وواضحة بأن أمريكا تريد التنصل من أفعال النصرة سياسياً والاستفادة منها ميدانياً، وتريد إلى جانب ذلك أن تبيض سمعتها بين السوريين الذين يكرهون أمريكا أياً كانت مواقفهم الداخلية، وتريد فوق ذلك نقل مركز ثقل التمويل والعمل المسلح باتجاه جبهة النصرة ومثيلاتها على حساب بقية المعارضة المسلحة لتخدم المشروع التفتيتي الذي تعمل عليه، ومن جهة أخرى فإن اعتبار النظام لجبهة النصرة إرهابية يستند إلى جرائمها وشكل ظهورها، ويفسر الإصرار على ذكرها في كل شاردة وواردة بأنه محاولة للمطابقة بين جميع أصناف المسلحين وصنف النصرة، وبالتالي توفير الذريعة الكافية لاستمرار مقولات «الحسم العسكري».. إلا أن هذا الكلام وهذا التوصيف صحيح حتى حينه، ولكن من يضمن أنه سيبقى صحيحاً؟ وأكثر من ذلك إنه لن يبقى صحيحاً طالما نقل مركز التمويل نحو النصرة وقطع عن «الحر».. ألم تبدأ حماس حسب العديد من الدارسين بتنسيق أردني- إسرائيلي لنسف اليسار الفلسطيني ولتسوية القضية وإنهائها وفقاً للمصلحة الإسرائيلية؟ ولكن حين ملأت كوادر الشعب الفلسطيني جسم حماس وقبلنا بيافطتها شرط أن ترفع السلاح في وجه العدو، هل بقيت حماس كما بدأت؟..
إن تطور الظاهرة المسماة «جبهة النصرة» محكوم بقادم الأيام، وبكيفية تحولها، فهي وفقاً للكلمات المفتاحية من الأمريكان والنظام ظاهرة منتهية الفرز، ولكن الواقع قد يقدم ما هو مخالف لذلك، قد يسمح بفرز جديد ضمن جبهة النصرة نفسها التي توسعت كثيراً في الفترة الأخيرة، إن فرزاً بين السوريين وغير السوريين ومن بحكمهم من الممكن أن يأخذ طريقه إلى أرض الواقع خلال الشهور القليلة القادمة، حين نسمح للكلمة بالتطور وحين نسمح للفكرة بهامش وقت للتكون..
إن التحكم بأفعالنا وسلوكنا عبر تحديد الكلمات التي نفكر من خلالها هي أخطر أداة يمتلكها أعداؤنا، ولذا فإنها بحاجة إلى جهد كبير لإعادة تعريفها ولحذف ما لا يمكن له أن يكون مفيداً من بينها..