أسامة دليقان أسامة دليقان

أي «الديمقراطيات» يريدها الشعب السوري؟

تتدفق علينا اليوم سيول من الرسائل والشعارات، التي تنادي بكلمات مجرّدة وغامضة مثل «الديمقراطية»، و«الحرية»، و«حقوق الإنسان»، وهي الكلمات الأكثر تكراراً على وسائل الإعلام الكبرى، وخاصة ذات التمويل الدولاري والبترولي. والملفت للانتباه والمريب في الوقت نفسه أنّ أغلب الأحداث الأخيرة التي جرت في بلدنا، وحسب المعلومات المتوفرة حتى وقت كتابة هذا المقال، تمّ فيها رفع هذه الشعارات بشكل أساسي وبهذا الشكل المجرد بالذات، ولم تحتلّ الشعارات التي تعكس مطالب معيشية واجتماعية مكان الصدارة، وفي أغلب الحالات لم تذكر أصلاً، رغم أنه عادة ومنطقياً يفترض أن تكون الشعارات الاقتصادية-الاجتماعية هي المتوقعة من التحركات العفوية للفقراء والعاطلين عن العمل والمهمشين؟ والأخطر من هذا وذاك، أنه لم يُذكر أيّ شعار وطني واضح، كما هو متوقع أيضاً من تحرك عفوي لشعب لديه أرض محتلة وله تاريخ عريق في الممانعة والمقاومة!

 

فعلامَ يدلّ ذلك؟

لا شكّ في أنّ الأحداث الأخيرة تدلّ على أنّ الفساد قد وصل إلى مرحلة بات معها ورماً سرطانياً، بحيث أوهن جسد الوطن لدرجة سمح معها للذئاب المتربصة به بالوثب عليه وتنفيذ عضّة مؤلمة، مستفيدين من السياسات الليبرالية الجديدة وإجراءات التكيّف مع اقتصاد السوق الرأسمالي، التي أدّت إلى تجويع الكادحين، وزيادة البطالة والفقر.

ولكن ألمْ يروّج الليبراليون الجدد أنفسهم إلى أنّ الليبرالية تجلب معها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؟

«الحرية»؟

لقد ترافقت الليبرالية الجديدة بالفعل مع انتشار الحرية، لكن حرية من؟ حرية رأس المال الأجنبي، وحيتان المال والفاسدين المحليين المرتبطين به، حريتهم في استباحة ثروات البلاد، وخصخصتها، ورفع الأسعار، والضغط لاستصدار كلّ التسهيلات القانونية التي تصب في مصلحتهم، مستفيدين من البنية المتخلفة لقوانين الانتخابات، وغياب قوانين وطنية للأحزاب، والصحافة والإعلام والمطبوعات، أي غياب كل ما من شأنه تحقيق رقابة شعبية فاعلة... مما سمح لهم بالإمساك بالمفاصل الرئيسية في الاقتصاد الوطني، وهيمنة ممثليهم على السلطات المختلفة، التنفيذية، والتشريعية، والقضائية..مما يهدد بإحكام قبضتهم على زمام القرار السياسي في البلاد، الأمر الذي يسيل له لعاب العدو الأمريكي-الصهيوني، ولنا أن نتصور كيف ستنعكس حريتهم هذه على قضية تحرير أراضينا المحتلة.

«الديمقراطية»؟

لم ينشر الليبراليون الجدد حريتهم فقط، بل وكذلك ديمقراطيتهم. فما هو جوهر هذه الديمقراطية؟

«من يملك يحكم»، قاعدة بسيطة واضحة وصالحة لكل زمان ومكان، وطالما بقيت الثروات ووسائل الإنتاج المختلفة، في أي بلد كان، مُلكاً لفئة صغيرة، لطبقة مالكة، فإنّ هذه الطبقة تمسك بالسلطات وتُفصّل قوانين «الديمقراطية» على مقاسها ولمصلحتها، ثمّ تطرح عدة خيارات أو أسماء، جميعها تصب في مصلحتها، وتسمح لأبناء الشعب وعبر صناديق الاقتراع، ومن خلال انتخابات «حرة وديمقراطية»، بأن يجيبوا على السؤال التالي: هل ترغبون بديكتاتورية رأس المال على طعمة الموز؟ أم الفريز؟ أم البرتقال؟ أم الشوكولا؟ إلخ..

ومن الآن فصاعداً يجب على الشعوب أن تفهم من كلمة «ديمقراطية»، عندما تستخدم مجردة هكذا، بأنّها كتمان صوت الكادحين، كتمان صراخهم، ذلك المنعكس الطبيعي الذي يقوم به الجسد للتعبيرعن آلامه.

«حقوق الإنسان»؟

بات المتشدقون بما يسمى «حقوق الإنسان»، بمثابة البهارات الضرورية التي ترش دائماً على الوجبات الإخبارية السريعة، والضيوف المحببين على قلب بروباغاندا الفوضى الصهيو-أمريكية، إذ غالباً ما تكون هذه البهارات محفوظة لأوقات مناسبة في قطرميزات واشنطن، ولندن، وباريس، وهي قصور ومكاتب هؤلاء، المزودة عادة بباحات خلفية جميلة وهادئة، ومليئة بالورود، لكي يتمشى فيها هؤلاء المدافعون عن «حقوق الإنسان» في العالم الثالث؟! بصحبة كلابهم وقططهم المدللة، لكي يحافظوا على رهافة إحساسهم ليس بحقوق الإنسان فقط، بل وبحقوق الحيوان أيضاً. إحدى جماليات الثورات العظيمة التي حدثت، هي أنها توفّر علينا الشرح الطويل، لأنّ صنّاعها عبّروا بكلمات قليلة ولكن عميقة عن موقفهم من أمثال هؤلاء، فلن ننسى أبداً ذلك العامل المصري الفقير البسيط الذي أجاب ببساطة عندما سؤال عن البرادعي: «مش عايزينو، ده راجل بتاع أمريكا، ويأكل كافيار وحاجات غريبة، أما إحنا فنأكل عيش أبو شلّة».

هذه هي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بالمعنى الذي تجعجع به اليوم جوقة الإعلام الإمبريالي والرجعية العربية بما فيهم المعارضون التقليديون، الذين إما أنهم كانوا جزءاً من الطابور الفاسد في النظام، وخرجوا منه كنتيجة لخلافات على الكعكة داخل هذا الطابور، بعد أن أخذوا منها نصيبهم (رفعت وخدام كنماذج). أو أنّهم من ممثلي طبقة البرجوازية الكبرى القديمة التجارية والمالية، والإقطاع القديم، والذين تجمعوا تحت اسم «الإخوان المسلمين»، وهؤلاء يحملون أحقاداً تاريخية على ما تمّ إنجازه في فترة الإصلاح الزراعي والتأميمات. وهؤلاء أصلاً كانوا ومازالوا يحملون مشروعاً اقتصادياً ليبرالياً مطابقاً بخطوطه العامة لكلّ إجراءات الفريق الاقتصادي الحكومي التي تمّ تنفيذها خلال السنوات الست الأخيرة، ولكنّ الإخوان حاولوا فرضها في مرحلة من تاريخ سورية لم تكن فيها توازنات القوى تسمح بذلك. فهل يأمن الشعب السوري جانب هؤلاء؟

أولم يكن الإخوان المسلمون في مصر، من خلال وجودهم الكبير في البرلمان، شاهداً على، بل وشريكاً في، المشروع الليبرالي الذي جوّع الشعب المصري وأهان كرامته على مدى سنوات طوال؟ أولم يسارعوا، وفي وقت مبكر من الثورة، إلى الخنوع والمساومة مع نظام مبارك العميل؟ أولم يخونوا الثورة المصرية بمشاركتهم المحمومة ودعوتهم الناس للمشاركة في التصويت لصالح التعديلات الدستورية الشكلية، التي تحافظ على جوهر النظام، ذلك النظام الذي لم يصبح حتى الآن قديماً؟! أولم يتحالف نظراؤهم في سورية، مع خدام، ومع الشيطان الأمريكي-الصهيوني؟

هذا هو الوجه الحقيقي لديمقراطية وحرية الليبرالية الجديدة، سواء أظهر هذا الوجه ملتحياً، أم بذقن حليقة دردرية، أم بصلعة برادعية علمانية.

إنّ الفاسدين أورام سرطانية تتضخم وتثقل جسد وطننا، وتمتص دمه، وتُضعف باستمرار كادحيه وفقراءه، الذين هم القوة العضلية والروحية الوحيدة التي تثبّت جسد هذا الوطن، بحيث يظلّ متعلقاً بصخور الممانعة الناتئة من جبل المقاومة، رغم أنّ كفيه تدميان. ولذلك يجب على هذا الوطن-الجسد أن ينقذ نفسه من الهلاك باتخاذ الإجراءات التالية، وبشكل متزامن وسريع قبل فوات الأوان:

1) أن يجتثّ تلك الأورام ويتخلص منها في أسرع وقت ممكن، أي أن يجتثّ الفساد الكبير من جذوره، ويعيد جميع مكتسبات الكادحين التي تمّ التراجع عنها، وتأميم كلّ القطاعات التي جرت خصخصتها، والتوجه نحو اقتصاد يحقق أعلى نمو وأعمق عدالة اجتماعية، أي نحو «حرية الكادحين»، وليس «الحرية».

2) ألا نبقى معلَّقين عند سفح الممانعة بانتظار الوحوش التي تخرج من الوادي المظلم، محاولة جذبنا نحو الأسفل، نحو هاوية المفاوضات والتطبيع وسلام الاستسلام. بل يجب أن نصعد إلى ذروة جبل المقاومة بكل أشكالها من أجل تحرير الجولان.

3) وأن نصرخ لنعبّر عن آلامنا وأحلامنا، ونزجر أعداءنا بصوت جبار، ولن نستطيع ذلك عن طريق «الديمقراطية»، بل عن طريق «الديمقراطية الشعبية، ديمقراطية الكادحين».

المقاومة الشاملة حتى التحرير، والديمقراطية الشعبية للكادحين، والعدالة الاجتماعية، ككل واحد لا يتجزأ هي العلاج الإسعافي الوحيد لوطننا النازف... ويوحدها جميعاً شعارٌ واحد واضح، ألا وهو «الاشتراكية».