هل تأخر الإصلاح ووقعت الفأس بالرأس؟ كيف يمكن استدراك الحفاظ على تلاحم النسيج الوطني ومتانة الوحدة الداخلية؟!
في لحظات معينة من تاريخ الشعوب والدول، يجب التوقف، إن لم نقل يجب الانعطاف، والنظر بجدية إلى الخلف، إلى الطريق التي سرنا عليها طويلاً، وتفسير ملامحها وصفاتها، والنتائج التي أوصلتنا إليها. وبناء على دراسة معمقة وشفافة وصادقة لكل ذلك، يجب صياغة الرؤية الرشيدة والملامح الجديدة لمتابعة الطريق، فما أفضى إلى خير الشعوب الكريمة المناضلة وتطورها ونموها، وحافظ على كرامة مواطنها وحريته وأمنه وحريته ولقمة عيشه المريحة المكرمة، أبقينا عليه وعززناه، وما أفضى إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهدد كرامة المواطن وحريته، وسلبه الأمن والأمان والاستقرار، وصعَّب عليه لقمة عيشه، نبذناه وقطعنا معه قطعاً كاملاً، وانعطفنا نحو خطط إسعافية سريعة لتعديل كفة الميزان، وجعل مصلحة المواطن في العيش الكريم والحفاظ على كرامته، وحقه في التعبير والكلمة الحرة، وتحقيق تطوره ونموه على كل الأصعدة، هي الأولوية في المخططات القادمة.
الليبرالية.. أم العلل!
إن الخطا الليبرالية التي تم اعتمادها في إدارة الاقتصاد السوري في العقد الأخير، وخاصة في الخطة الخمسية العاشرة، من سحب دور الدولة الرعائي، وتدمير وخصخصة الكثير من شركات ومؤسسات القطاع العام، وتشجيع استثمارات القطاع الخاص المتحكِّم الذي اتَّسم بالطمع والنزعة إلى الربح الفاحش السريع، ورفع الدعم عن المحروقات وتحرير أسعارها ورفعها بمعدلات ظالمة وصلت إلى 300%، وهذا أدى بالتالي إلى الانفلات الكبير بالأسعار في السوق الداخلية، والارتفاع الجائر الذي طال أسعار جميع المواد الاستهلاكية والتموينية، وهذه السياسات أدت إلى انتشار واتساع الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وتعمقت بسببها مؤشرات الفقر واتسعت شرائحه، وازدادت معدلات البطالة والجريمة، وباتت لحمة النسيج الوطني السوري ووحدته الوطنية الداخلية مهددة بخطر الانهيار، وجعلت عيون المتربصين بأمن الوطن تنتظر الفرصة للتحرك والعبث، وتهديد أمن الوطن والمواطن.
الحراك الشعبي والمطلبي في بلد ما، ما الذي يحركه؟ ومن يحدده؟ وما هي أهدافه؟ ومن قد يستفيد منه لتحقيق أهداف غير معلنة، ويجره إلى مكان عكس ما كان يرجى منه؟ وما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتجاوز الانهيار والعودة بالبلاد إلى حالة الاستقرار والأمن والكرامة والحرية؟! الشعوب وحدها تحدد ذلك، تحدد احتياجاتها ومطالبها وطرق المطالبة بها! تطلق بحسّاساتها العفوية إشارات للاجتماع والإجماع على الكلمة والموقف في اللحظة ذاتها، وبالمطالب ذاتها. وإن الجواب على هذه التساؤلات الهامة والمصيرية هو جواب سهل، وعلى درجة كبيرة من البساطة، لأن احتياجات ومطالب كل الشعوب مشتركة وشديدة التشابه، وهو حل المشكلتين: الاقتصادية ـ الاجتماعية، والديمقراطية، والمتمثلة بإيجاز معبر «طعامٌ من جوع وأمانٌ من خوف وصراخ من ألم» والشعب السوري لا يريد سوى لقمة عيش كريمة، وأمان وديمقراطية وحرية الكلمة والتعبير، ومن هنا تساءلنا: «ما الذي يريده الشعب السوري لتجاوز الأزمة؟ وما هي مطالبه التي يجب أن تتحقق سريعاً ليحظى بالوطن دائماً بالاستقرار والهدوء والحياة الهادئة الحرة؟» وجالت «قاسيون» على شرائح كثيرة من أهالينا ومواطنينا، وتساءلت معهم حول هذه المعايير والطموحات، فكان لنا اللقاءات التالية:
صوت الناس..
ـ مجموعة من الطلاب الجامعيين تحدثوا لنا بشفافية عن أمور عديدة، وأجملوها على لسان أحدهم فقال: «لو تجاوزنا غلاء الأسعار، والطعام الذي يكاد تأمينه يقصم الظهر، وظواهر الفساد التي بات من الواضح أن محاربتها واجتثاثها من جذورها أمر مستحيل بالطرق المتبعة حتى الآن، فإن الشعب السوري بحاجة إلى الشعور بالأمان عندما يمارس حريته بالتعبير عن رأيه وكلمته الحرة، حتى ولو كان هناك اختلاف في الآراء فإن ذلك لا يُفسد للود قضية، بل على العكس قد يكون هذا مَثاراً للتنافس الشريف على بناء الوطن وحمايته والحفاظ عليه، أما إذا قوبل الاختلاف بالرأي وحرية الكلمة بالرفض والضغط، فمن الطبيعي أن يولِّد ذلك الشقاق، وأن يسعى كل طرف إلى فرض رأيه، ويسعى إلى ذلك بأساليب وأدوات وطرق قد يكون بعضها خاطئاً ربما يهدد أمن المجتمع واستقراره، ومن هنا فنحن بحاجة إلى إطلاق الحريات الديمقراطية، ورفع قانون الطوارئ، واستيعاب الدولة لجميع المواطنين تحت مظلتها، وفي حدود المنافسة الشريفة لخدمة الوطن وتطوره».
ـ المواطن (د..) القاطن في جرمانا والمهاجر داخلياً من المنطقة الشمالية الشرقية قال: «في منطقتنا هناك شريحة كبيرة من المواطنين تعاني من ظلم كبير وقع عليها نتيجة الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 وأنا منهم.. لقد حُرمنا من الجنسية والهوية السورية وحق المواطنة، مع أن أهالينا وجدودنا اندمجوا مع المجتمع السوري منذ أكثر من مائة عام، ونحن نحب هذا الوطن ومستعدون للدفاع عنه والتضحية في سبيل حريته وكرامته ومتانة وحدته وجبهته الداخلية والخارجية، وضد أي عدو كان، ولا نريد سوى أن نعود للإحساس بإنسانيتنا ووجودنا وحقنا الطبيعي أن يكون لنا جنسية وهوية الوطن الذي ولدنا وتربينا فيه، وقبلَنا آباؤنا ولدوا وعاشوا فيه، وأصبح بيننا وبين هذا الوطن حقوق وواجبات متبادلة، نتمنى تحقيقها وممارستها بكل شفافية وإخلاص، وهذا لا يتحقق إلا بإلغاء القوانين الاستثنائية، وإلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي الجائر لعام 1962».
ـ أم حسين، العاملة في القطاع العام قالت: «يا ابني قالوا للأعمى ماذا تتمنى؟! وماذا تتصور أمنية الأعمى غير عين يرى بها الدنيا؟ ونحن أصبحنا في مصاف العميان، جعنا وبردنا وتشردنا، وما عدنا نرى يوم راحة، شركاتنا التي نأكل منها لقمة عيشنا مهددة بالخراب والبيع، ونحن مهددون بالتشرد، وحتى مع وجود الراتب الضئيل لم نعد نستطيع شراء الدفء لأولادنا بسبب رفع سعر المازوت بهذا الشكل الفاجر، فبعد رفع الدعم عنه وتحرير سعره، علماً أنني شخصياً أشك في أن الحكومة كانت تدعم سعر المازوت أو تتحمل جزءاً من تكلفته خدمة لتوصيله للمواطن، ومع ذلك فقد ادعت الحكومة أنها كانت تدعم سعر المازوت ورفعت الدعم عنه ليرتفع سعره بنسبة 300%، هذا ظلم، هذا حرام، كيف تتخلى الدولة عن ابنائها بهذا الشكل؟! وقد وعدتنا الحكومة أكثر من مرة وعلى مدى سنتين بزيادة الرواتب، ولكنها كانت تضحك علينا وتسكتنا بإطلاق الشائعات، وكل مرة تخترع حجة لعدم وتنفيذ وعودها، مرة قالوا باقي لنا بذمتهم 35% من الراتب، بعدين سحبوا كلامهم وقالوا باقي 17% فقط، بعدين قالوا لا لن نزيد الرواتب بل الأفضل أن نخلق فرص عمل، وهذه حجة وهمية اختبؤوا خلفها ومازالوا يضيقون علينا في لقمة عيشنا».
ـ العاملة نجاة ع تابعت: «ليس فقط المازوت الذي ارتفع فقد جر معه أسعار كل المواد الاستهلاكية والتموينية، وطنَّشت الحكومة عن مصادر التحكم بالأسعار، وأفلتت كل شيء من يدها ليتحكم بنا حفنة من التجار الطماعين الجشعين، فمن أين أو من أين سنتحمل كل هذه الأعباء والهموم؟ إن الدنيا حولنا على كف عفريت، ويجب على الحكومة تدارك الأمر والعمل بشكل إسعافي لتهدئة الأمور، وإعادة الاعتبار للمواطنين وكراماتهم، يجب إعادة الدور الرعائي للدولة والحفاظ على القطاع العام، ودعمه رائداً وقائداً للاقتصاد الوطني، وتقويته وتعزيزه وتطويره لخلق فرص عمل جديدة تحل مشكلتي الفقر والبطالة، بدلاً من التفريط به ودفع الاقتصاد الوطني نحو الهاوية».
ـ المواطن أبو إحسان قال: «المطلوب الآن، وفي هذه الأجواء المتوترة المحيطة بنا، وفاء الحكومة بكل وعودها والاستجابة بشكل صادق وشفاف لكل مطالب الشعب وتطلعاته، فبالإضافة إلى تحسين مستوى المعيشة وتخفيض الأسعار وتحسين مستوى الرواتب، يجب تطبيق مقررات الحكومة بمحاربة الفساد واجتثاثه من جذوره، حيث من الضروري فوراً فتح ملفات الفاسدين الكبار وناهبي أموال الدولة، وخاصة المستثمرين الذين يبيضون الأموال التي سرقوها من الدولة، أو حتى تحت اسم القروض التي منحها لهم المرسوم رقم 10، وفتحوا فيها مشاريع واستثمارات من أموال الشعب، ويجب مصادرة وتأميم هذه المشاريع وإعادتها إلى خزينة الدولة».
ـ المواطن سليمان ص قال: «يبدو أن الحكومة السورية غير قادرة على قراءة ما بين السطور، وهي تعمي أعينها عما يجري من توترات محيطة بنا من كل صوب، ومن حراك شعبي وسياسي، وإن كانت ترى وتفهم فهي إذن لا تنوي تدارك الأمر وتلبية مطالب الشعب السوري الحر الأبي الطامح لحياة إنسانية كريمة، تتوجها الديمقراطية وحرية الكلمة والتعبير، فقد أعلنت الحكومة منذ فترة قريبة عزمها على تخفيض الأسعار، وطلبت من التجار العمل على ذلك خدمة للمواطن، ولكن شيئاً على الأرض لم نلمسه، ولم تكن محاولات الحكومة إلا لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، ولكن تأكد أن التغيير هو حتمية تاريخية وموضوعية عندما تكون الظروف ملائمة، فإما أن تعيد الحكومة الكرامة للشعب وترفع عنه الأعباء والهموم، وإلا فإن الضحك على الشعب والاستهتار به وبمعيشته، أولاً وقبل كل شيء يدل على الفشل الذريع لخطط الحكومة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وثانياً يخلق ظروفاً ملائمة للفوضى والتخريب، يستغلها أعداء هذا الوطن لإثارة المشاكل وتهديد الأمن والاستقرار وضرب الوحدة الوطنية الداخلية».
بعض من كل..
هذه بعض مطالب الشعب السوري بكل أطيافه، مطالب يجب المسارعة إلى تحقيقها حفاظاً على الوحدة الوطنية الداخلية وأمن واستقرار الوطن، وهي مطالب محقة، ولا يتطلب تنفيذها من الحكومة سوى بعض الشفافية والجرأة وصدق النية بإنقاذ البلاد من الفوضى والدمار، ولم يفت الأوان على ذلك بعد، ولكن بالمقابل ليس هناك الكثير من الوقت لنستهلكه بالتسويف والمماطلة، فنحن في هذه المرحلة الحرجة، وبسبب التوترات المحيطة بنا، أشد ما نكون احتياجاً لحلول إسعافية تعمل على تمتين الوحدة الوطنية الداخلية، وتعزيز احترام كرامة المواطن، ودعمه وتعزيز إحساسه بالانتماء والفخر بهذا الوطن..