هشاشة الإعلام السوري.. والفجيعة الحاصلة!
توضع الجهات المسؤولة عن الإعلام والدعاية السياسية أثناء الأزمات أو الظروف غير الاعتيادية أمام خيارين دقيقين جداً، إما الكشف عما حصل وتزويد الرأي العام بمعلومات عن الموضوع بغية كسب ثقته، أو اللجوء إلى إخفاء الأمر والتستر عليه والتذرع بالخوف من إثارة الرعب في قلوب الناس، ناهيك عن القلق من إمكانية استغلال تلك المعلومات داخلياً أو خارجياً لتحقيق غايات معينة.
والإعلام السوري اختار دائماً وطوال سنوات، الخيار الثاني، سواء كان الحدث تحطم قطارٍ، أو تفجيرات في منطقة ما، أو إحصائيات حول الأنفلونزا أو بعض الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية، كل ذلك، وعلى الرغم من تنوعه واختلاف مجالاته وأهميته، اعتبر خطيراً بالدرجة نفسها، وتم التعامل معه بالإنكار نفسه، لدرجة اعتاد معها المواطن السوري البحث عن وسائل إعلام أخرى لمعرفة تفاصيل أحداثٍ ربما تبعد فقط بضعة مئات من الأمتار عن منزله، في ظل صمت مطبقٍ من جانب إعلام بلاده.
لكن السياسة الإعلامية في سورية تغيرت الآن، ولا يعود السبب في ذلك إلى وعي الجهات المسؤولة عن ضرورة تغيير شكل الخطاب الإعلامي نتيجة عدم جدواه، وإنما ببساطة لأن الصمت لم يعد ممكناً في ظل تغيرات متسارعة وجذرية داخلية وخارجية كان للإعلام فيها دور فاعل، وأيضاً في ظل تغطية مكثفة من القنوات الإعلامية الخارجية وتحرك الرأي العام العربي والغربي تجاه الوضع الحاصل مؤخراً في سورية.
فماذا كانت ملامح تلك التغطية؟ وما مضمون الخطاب الذي تبناه الإعلام السوري بعد صمت طويل؟
بداية لم يستطع الإعلام السوري أن يخطو خطوة واحدة بعيداً عن المساحة التي رسمها الخطاب السياسي، بل أنه تأخر بخطوات عن هذا الأخير، فظهور السيدة بثينة شعبان مستشارة الرئيس للشؤون الإعلامية والسياسية في مؤتمر صحفي وما رافقه من الإعلان عن عدد من المراسيم التشريعية ومشاريع تعديل بعض القوانين، هي التي أجبرت الإعلام السوري على الاعتراف ببعض ما كان يجري منذ أيام على أرض الواقع، وفي الوقت الذي تضمنت فيه بعض التصريحات كلمات تعزية بالشهداء السوريين في درعا وغيرها من المحافظات، جاء الخطاب الإعلامي جامداً يخلو من أي تعبير لفظي أو حتى جسدي عن الحزن على شهداء الأمة أو التعاطف مع عائلاتهم، منشغلاً بالحديث عن الإصلاحات المرتقبة والتعديلات التي تتم دراستها والفرح الشعبي بالخطوات المتخذة.
وفي حين انشغلت وسائل الإعلام الأخرى بنقل معلومات متضاربة عن أحداث العنف والاضطرابات في اللاذقية بما يخدم سياستها الإعلامية، استمر الإعلام الرسمي في سياسة النكران مستمراً في رسم التعابير اللغوية والجمل الطويلة، التي تحذر من شبح الطائفية وتكشف عن وجود جماعات مخربة، دون أن يرافق تقاريره المضطربة المختصرة صورةً أو دليلاً عما يحصل فعلاً، ودون أن يحدد طبيعة هذه الجماعات. ومن جملة التعابير التي استخدمها لوصف الجماعات: أعداء الأمة، مخربين، جهات مغرضة، أطراف وجهات خارجية، مجموعة مسلحة، عناصر غريبة.. وأخيراً وليس آخراً: «مجموعات مسلحة متوحشة غادرة تحولت إلى خفافيش تتهاوى وتتساقط بفعل تلاحم أبناء الشعب» (نقلاً عن جريدة البعث).
الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الإعلام السوري هو الإشاحة بوجهه عما يجري في الشارع، وعن المحاور التي كان من الممكن استغلالها والتوسع فيها بما يخدم رسالته، والانشغال عوضاً عن ذلك بكشف الحيل والخدع البصرية والتقنية في الصور ومقاطع الفيديو الذي عرضت على قنوات أخرى، مدققاً في الوجوه والحقائب، وألوان الملابس، وتسريحات الشعر، ومطلقاً الشتائم وساخراً من تلك القنوات التي وقفت عاريةً أمامه بعد أن استطاع بكل حنكة كشف كذبها.. ليتجاهل بذلك حقيقة منطقية وإعلامية تقضي بأن الأكاذيب والتهويل يرد عليها بحقائق وصور مأخوذة من أرض الواقع وليس فقط باكتشاف الثغرات في رسائل الخصم.
وتستمر قائمة الأخطاء لتشمل مدى المباشرة والسطحية التي عرض فيها الإعلام غايته من خلال اللعب (وبشكل مفضوح) على وتر الحاجات والمخاوف عند السوريين عن طريق ادعاء تلقي اتصالات «عفوية» من فئات الشعب المختلفة، ليكون المتصلون بمحض المصادفة إما أشخاصاً سعداء من محافظة درعا، أو مشاركين من القامشلي، لتتالى بعد ذلك قافلة المتصلين والضيوف من رجال الدين من كل المذاهب والطوائف، وحتى زعماء العشائر وصولاً للأمهات القلقات، كأنه يقول للمشاهد السوري: انظر كيف تكذّب سعادة هؤلاء وجود بؤر التوتر في سورية!.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن المحطات الأخرى والنيل من الإعلام السوري، لكن من الهام الاعتراف ببعض الحقائق، أولها أن الشعب فقد ثقته بإعلامه منذ زمن طويل، وهي حقيقة يبدو أن الإعلام وحده لا يدركها بالرغم من أنه يتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وبالمقابل هناك محطات تتميز بالمهنية وامتلاك وسائل الجذب ما يجعلها أكثر تأثيراً على الرغم من سياساتها المشكوك فيها. فالمواطن السوري لا يسعه إلا التأثر بالمضمون المقدم على لسان مذيع شاب حيوي ذكي، يظهر تعاطفاً وانفعالاُ تجاه قضيته، في مقابل مقدم برامج ملت الناس ابتذاله ورتابته واستخفافه بها.
المشاهد قادرٌ على تمييز الحقائق من الأكاذيب سواء عرضت تلك الأكاذيب في وسائل إعلام خارجية أو سورية، لذلك آن أوان تخلي وسائل الإعلام الرسمي عن العمل وفق نظرية المؤامرة التي ترى في فئات الشعب أفراداً منفصلين تائهين ومنقادين يمكن لأي جهة خارجية أن تحركهم أو تؤثر فيهم، ما يستوجب حجب المعلومات عنهم وتعريضهم لجرعة مكثفة من الشعارات والعناوين الطنانة ومصادرة حقهم في التعبير وإبداء الرأي.