قواعد اللعبة، استثنائياً...!
إن احتواء موجة «الاستهداف الخارجي» لسورية نسيجاً مجتمعياً ومواقف إقليمية ودولية يعني في هذا الظرف الاستثنائي أن يكون الرد عليها داخلياً ومن أصحاب القرار بالدرجة الأولى استثنائياً، أي أكبر وأشد وأدهى منها وأكثر تلبية لطموحات الشعب السوري ومطالبه، وأكثر انسجاماً مع طيبته وتواضعه، وإلا ستكون ارتدادات هذه الموجة والموجات الأخرى المبيتة أثقل وطأة وإيلاماً...
وإن ضخامة وقذارة تربص القوى الكبرى في العالم التي تعلن صراحة بلسان أحد ممثليها «أن الوقت لم يحن بعد لفرض عقوبات دولية على سورية» يثبت ما كنا نحذر منه دائماً من حبكة «الضربة المركبة على سورية وشعبها»، مثلما تدق الآن ساعة كل الاستحقاقات الوطنية التي نبهنا إليها مراراً، بعيداً عن إلباس واشنطن وغيرها مطالب التغيير بسورية لبوس الطائفية والقبائلية التفتيتية البغيضة في إطار كبحها للتطورات الثورية في العالم العربي.
يقول غالبية المحللين «إن سورية تدفع اليوم أثمان40 سنة من المواقف القومية». هذا صحيح، ولكنها تدفع بالمثل أثمان 40 سنة من السياسات الداخلية الخاطئة، وأثمان استعداد عدد من السوريين في قصور معرفي ذاتي وموضوعي، تزيده «شبكات المندسين والمخربين والمتآمرين والمخترقين للنظام»، للانتقام من هذه السياسات وهذه المواقف، على مر هذه السنين.
بناءً عليه، وبالعموم هنالك ثلاثة سيناريوهات ومخارج تنتظر البلاد في هذه المرحلة العصيبة، التي لم تنته بعد للأسف، رغم تجاوز الشعب والنظام في سورية لجزء من الموجة الخارجية، مبدئياً:
- «حرب أهلية» يؤججها «الخارج» من جهة، وتمهد لها أرضيات الاحتقان والتوتر الاجتماعي في «الداخل» والناجمة عن السياسات الاقتصادية المتبعة خلال السنوات الماضية، من جهة ثانية، ومحدودية المعالجات المتبعة لها، من جهة ثالثة.
- أن يقوم النظام بنفسه في «ثورته» هو «على نفسه» بتقديم «قرابين» حقيقية، بهدف إنقاذ نفسه والبلد وتثبيت أرضيته الجماهيرية، وهذه ليست سابقة بحد ذاتها...
- فتح الجبهة مع «إسرائيل» ونقل المعركة إلى ميدان من يريد استهداف سورية (أي الانتقال من الدفاع للهجوم)، بما يخلق لدى الغالبية العظمى من الشعب حالة اصطفاف حقيقي، كون البلاد عندها في حالة حرب وطنية فعلية..
لقد عبّر الشعب السوري في مسيرات «الوفاء للوطن» عن رفضه القاطع لسيناريو الألعاب القذرة القائم على التفجير الطائفي، وهو بالتالي يستحق المقابل الحقيقي من «السيناريو الثاني» لكي تصبح مواقفه بالشارع تعبيراً حقيقياً عن دفاعه الواعي تماماً عن مصالحه، وليست تحت أي مؤثر عاطفي أو شكلي آخر.
فإلى جانب أهمية السرعة في إصدار قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام وإلغاء الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، وتفعيل استقلالية القضاء، فإن بعض معالم هذا الاستحقاق، الذي لن يكون بلا أثمان ضمن أجهزة الدولة، تتمثل فيما يلي:
- إجراء محاكمة قانونية سريعة وعلنية لكل المتورطين في أحداث درعا من المسؤولين والأهالي أياً كانوا، وعلى حد سواء، ولاسيما أولئك الذين خالفوا قرارات عدم إطلاق النار –توضيح ما الذي يجري في درعا الآن، فإذا برزت في البلاد حالة التهابية ما فينبغي معالجتها بالدرجة الأولى مع تحصين بقية الجسم وليس ترك الالتهاب يتفاقم باتجاه «الطلاق» مع الدولة، ولاسيما مع إخلاء الساحة للشائعات والأقاويل وتلفيقات الفضائيات المغرضة –اعتماد خط تنمية اجتماعي حقيقي يحقق أرقاماً عالية وعدالة مرتفعة، أي مغاير للسياسات الحكومية المتبعة خلال السنوات الماضية، وليس تغييراً في وجوه أعضاء الحكومة فقط –إلغاء الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة ومعالجة كل نتائجه –فتح ملفات النهب وتراكم الثروات وتمركزها خلال السنوات الحافلة بالتحديات الإقليمية والدولية الجسيمة –القضاء على مراكز الفساد الكبرى في مختلف مرافق الدولة وعلى تخومها –إصلاح القطاع العام وإلغاء التعامل التمييزي بحقه –الاهتمام الجدي بقضايا الفلاحين بوصفهم شريحة اجتماعية أوسع، وليس موظفي الدولة فحسب -تأميم شركات الخليوي وتحويل أرباحها لتمويل خطط التنمية والصحة والتعليم ومكافحة الفقر والبطالة – اعتماد المحاسبة والمكاشفة وفتح المنابر الإعلامية الرسمية أمام الناس للتعبير عن مطالبهم وانتقاداتهم بمقدار ما يتاح لهم ذلك لإعلان انتصارهم لوحدتهم الوطنية ولرئيس الجمهورية.
إن مسيرات السوريين في الشوارع تحل مسألة هذا التمسك وهذا الإعلان، ولكنها لا تحل مسائل التضخم والبطالة والقيمة الشرائية لليرة السورية وارتفاع الإيجارات وأسعار العقارات والرشوة، الخ. والأخطر أنها وحدها، أي دون إجراءات فعلية داعمة، لا تحل «لعبة الدم» القذرة التي جرى رميها في الشارع السوري، ولاسيما بعد أن استيقظنا فجأة لنجد أنفسنا ضحية نفخ الأبواق بمكونات ومفردات ما قبل الدولة الوطنية: العشيرة الفلانية تعلن عدائها للنظام، ليرد عليها هو بأن العشيرة والقبائل العلانية معه..!
فإذا كانت سورية بحكم نسيجها المتفرد محكومة بالتوازنات التمثيلية للأديان والطوائف والعشائر والمدن والقوى السياسية ودرجات الولاء والقربى، فإن الانتقال للدولة العصرية- التي اعتقدنا أننا أبناؤها- يعني نسف هذه التوازنات باتجاه التمثيل الوطني واعتبار الكفاءات الوطنية بالدرجة الأولى في كل مفاصل الدولة والمجتمع لكي تكون هناك نقلة حقيقية تنقذ الوطن وكل القوى الشريفة فيه، خاصة وأن الفشل الأولي للتفجير الطائفي الفتنوي في البلاد سيدفع أصحابه لأنماط أخرى من التفجير، كالقومي والمذهبي، ليصبح الشعب السوري الأبي والكريم بمختلف أطيافه يتلقى من خارج الحدود المزيد من «نصائح» أردوغان مثلاً، وهو بحضارته ووعيه وتاريخه، بغنى عنها..!
وإذا أكدنا سابقاً أن المعركة الوطنية والإعلامية المفروضة على سورية هي غير متكافئة، فإنه ينبغي على السوريين وضع قواعدهم ومربعاتهم وخياراتهم هم، وليس اللعب حسب قواعد اللعبة المفروضة عليهم، أي تثبيت خياراتهم الوطنية المنسوجة تاريخياً والداعمة في عصرنا الراهن للمقاومة في الجولان ولبنان وفلسطين والعراق، والمتطلبة في الوقت ذاته لمستلزمات العيش الكريم الحر اللائق.
إن أصحاب القرار والتأثير والقوى الفاعلة في سورية على مختلف مستوياتهم ومواقعهم مطالبون مجدداً بنزع صواعق التفجير في البلاد، كيلا تنزلق نحو المربع الأول للاضطرابات والسيناريوهات المقيتة، بل لتخرج من دائرة الاستهداف المستمرة على الدوام نحو التحولات الوطنية المنشودة، الضامنة لكرامة الوطن والمواطن.
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.