حينما تصبح الحلول السياسية غير سياسية..

تتحدّد مقدرة الحلول الأمنيّة على قمع التحركات الاجتماعية المختلفة، في أحد جوانبها، بحسب المناخ النفسي -الاجتماعي العام للناس، فحين تكون الجماهير في حالة سلبيّة سياسياً تنجح تلك المعالجات في قمع وإنهاء أي تحرك على الأرض، أما عند انتقال الناس من حالة السلبيّة إلى حالة الفعاليّة سياسياً تلعب الممارسة الأمنيّة دوراً أساسياً مؤججاً  للأزمة الاجتماعية، بل دوراًً في توتير الصراع على الأرض وتأزيمه، لتصبح المعالجة السياسية العميقة هي المخرج الوحيد من أية أزمة اجتماعية.

لم تثبت المعالجة الأمنيّة للأحداث التي جرت في درعا والعديد من المدن السورية الأخرى فشلها فحسب، بل أثبتت أنها حالة خاصة ومكثفّة من بؤر التوتر الاجتماعي المرشحة للانفجار أو الانفلات في مثل هذه الظروف، بما يزيد من تعقيد الأمور ويدفعها باتجاه الفوضى الخلّاقة، ويهدّد الوحدة الوطنية، وظهر ذلك بدءاً من اعتقال أطفال، كخطوة خطيرة، وترويع الناس عن طريق القتل باستخدام الرصاص الحيّ في التظاهرات، ونشر الإشاعات وتلفيق التهم  الجاهزة بطريقة غير موضوعية، وأحياناً ليست بعيدة عن الفتنة والشحن الطائفي...

 وربما كان من الايجابي في هذه الظروف الإعلان عن حزمة الإصلاحات السياسية على خلفية الأحداث، على الرغم من التأخير الذي كلف دماءً سورية عزيزة وخسائر أخرى، ولكن المؤسف أن ذلك الإعلان لم يستطع وضع حد للقبضة الحديدية المنفلتة، والتي تفعل في كثير من الأحيان مفعولاً معاكساً لنوايا الإصلاح بشكلٍ عام، ولإيقاف النزيف القائم بشكلٍ خاص..

واللافت لأنه لم يجر الحديث عن محاسبة حقيقية لأعداء الوطن و«المندسين» ، واستمرّت الحلول ذاتها على الأرض تفعل فعلها بشكلٍ مستقل عن ذلك الإعلان، الأمر الذي أثار إحباط الناس وأدّى إلى اعتبار ذلك المشروع نسخة عن قرارات سابقة مماثلة بقيت حبيسة المكاتب ولم تجد طريقها للتطبيق..

يشكّل غياب أي برنامج جدي لمكافحة الفساد ومحاكمة رموزه واجتثاثه من الأساس عقبة حقيقية أمام أي مشروع للإصلاح السياسي، وأمام أية ثورة من فوق، وهذا هو المأخذ المفصلي والحاسم على أية معالجة سياسية للأزمات الاجتماعية، ولا تغدو محاولات الإصلاح مع الإبقاء على الفاسدين إلا عمليات تجميلية وترقيعية لاحتواء الاحتقان الاجتماعي وتنفيسه، وليس نيّة حقيقية في الإصلاح.

إن المعالجة السياسية المطلوبة، والتي من شأنها أن توحد الصف الوطني من القاعدة حتى قمّة الهرم السياسي، تبدأ بمحاكمة المسؤولين مباشرةً عن الدماء المراقة في الأحداث الأخيرة، ومن أعطاهم الأوامر بذلك، كعربونٍ ثقة بمشروع الأصلاح الكبير، ثم إحالة جميع من تجاوز الدستور السوري من المسؤولين الحكوميين إلى النائب العام، عندها يمكن لعملية الإصلاح أن تأخذ آجالها الزمنية المطلوبة دون أي تسرّع وستكون الجماهير قادرة على انتظار ما تبقّى في حزمة الإصلاحات كقانون الطوارئ والأحزاب والانتخابات وغيرها ممن يجب أن تخضع للنقاش العام مع الجماهير..

وفي الحقيقة فقد ظهر من خلال الوعود السابقة بالإصلاح والإعلان الحالي عن حزمة الإصلاحات - وذلك قبل أن تتبلّور مطالب الجماهير العفوية خلال نزولها إلى الشارع بمعزل عن أي خطاب سياسي لأي من القوى- أن القيادة السياسية للبلاد تعرف على الأقل من موقعها وبنيتها، طبيعة التوتر الاجتماعي وبؤره، بما يدفع للتساؤل عن سبب تأجيل الإصلاحات، وإبقاء الأزمة حتى هذه اللحظات الحرجة، التي تراق فيها الدماء ويزداد الاستياء والسخط إلى درجات غير مسبوقة؟؟ ولا نجد جواباً على السؤال إلا وجود الفاسدين الكبار داخل جهاز الدولة وخارجه يتناقض وبشكل تناحري وحاد مع أي إصلاح حقيقي بالعمق، لتحل المكرمات محل حقوق الشعب المنهوبة، وتصبح حاجات الناس أعطيات تمنح للناس فضلةً ومنةً..      

أما الحديث عن الإصلاح كفصل من فصول المعركة الإعلامية التي تدار لتنفيس التوتر الاجتماعي، مع إبقاء التوتر قائماً على الأرض وعرضةً للعسف الأعمى، الساعي إلى تحويل أي حراك جماهيري إلى مسيرةٍ خاوية بلا لون أو إرادة، فمن شأنه قطع آخر ما تبقّى من خيوط الثقّة بين الجماهير وقيادتها...