إنفاق سورية على الرعاية الصحية متدن عالمياً.. والقضية ليست بذمة العام وحده!

الرعاية الصحية في سورية، القادمة من «الزمن المجاني» في مستشفياتنا العامة والمراكز الصحية إلى حقبة «المستشفيات التجارية»، فالإنفاق على هذه الرعاية يعد أحد دلائل الاهتمام بالعناية الصحية لمواطني هذه الدولة أو تلك، وانخفاضه يعني العكس بالتأكيد، وارتفاع عدد المستشفيات بين عام وآخر قد لا يكون مؤشراً ايجابياً بالضرورة، خصوصاً إذا ما دخل المال الخاص كمستثمر في مجال الرعاية الصحية، ليلهث وراء الربح ليس إلا، وهذا التوصيف ليس كلاماً مجرداً، وإنما هو تجسيد للعقلية التي تدار بها مستشفياتنا الخاصة عموماً، حيث يغيب عن أذهان القائمين عليها الجانب الاجتماعي المرادف للطبي، والمكمل له، لا بل إنه الركيزة الأساس في أي استثمار خاص بالمجال الصحي، وخير دليل على الترهل في مستشفياتنا الخاصة هو عجزها عن الدخول ضمن التصنيف العالمي، في الوقت الذي استطاعت فيه مستشفى الأسد الجامعي العامة حجز مقعد لها في هذا التصنيف العالمي للمستشفيات..

تطور أفقي للمستشفيات العامة

تؤكد أرقام المكتب المركزي للإحصاء أن عدد المستشفيات الحكومية قد ارتفع خلال الخطة الخمسية التاسعة بنحو 20 مستشفى، أي ما يعادل نسبة 30% تقريباً، وازداد عدد الأسرة بما يقارب 3884 سرير، وبنسبة تطور تصل إلى 31%، أما في الخطة الخمسية العاشرة، وجدنا أن عدد المستشفيات الحكومية قد ارتفع بنحو 36 مستشفى، أي بنسبة 42.3% تقريباً، وزاد عدد الأسرة بما يقارب 5508 سرير، أي بنسبة تصل إلى 33.6%، وهذه المقارنة تؤكد دون شك التوسع العمودي للخدمات والمرافق الصحية العامة، ومحافظتها على مستواها، لا بل إنها شهدت تطوراً نسبياً في تعدادها في الخطة الخمسية العاشرة مقارنة بنظيرتها الخمسية التاسعة، وذلك بصرف النظر عن تقلص الخدمات الصحية المجانية المقدمة من جانب القطاع الصحي العام، أو تراجعه في السنوات القليلة الماضية..

وبنظرة إجمالية إلى الخطة الخمسية التاسعة، نلاحظ أن عدد الأسرة قد ارتفع بنحو 5428 سريراً، وبنسبة 29.5%، بينما ارتفع العدد المستشفيات الإجمالي بنحو 68 مستشفى، وبنسبة 17.4%، أما بالنسبة لعدد الأسرة المخصصة للسوريين نجد أن متوسط عدد السوريين لكل سرير انخفض بنحو 68 شخصاً، وبنسبة 56%، أما في الخطة الخمسية العاشرة، فإن العدد الإجمالي للمستشفيات في سورية قد ارتفع بنحو 33 مستشفى، وبنسبة 7.2، وارتفع عدد الأسرة بنحو 6662 سريراً، وبنسبة 28% تقريباً، كما انخفض متوسط عدد السوريين المخصصين لكل سرير بنحو 101 شخص ، وبنسبة 13.2%.

فالمستشفيات العامة في سورية، شهدت تطوراً واضحاً خلال الخطة الخمسية العاشرة مقارنة بالخطة التاسعة نسبة ورقماً (عدد المستشفيات، نسبة نموها)، بينما في الصورة الإجمالية، نجد أن هناك اختلالاً في التطور لصالح الخمسية التاسعة نسبة ورقماً، وهذا الخلل يعود لاختلال معادلة المستشفيات الخاصة التي تشوه الخط البياني لهذا التطور..

 

كارثة المستشفيات الخاصة

لا يمكن تفهم وقوف حالة إسعافية على أبواب احد مستشفياتنا الخاصة دون أن يسمح لها الدخول، إذ أنّ المطلوب دفع تكلفة العملية الإسعافية قبل إدخال المريض، وتكون النتائج في أغلب الأحيان كارثية، وهذه الحالة ليست استثناءً، وإنما هي واقع يتكرر على أبواب واحدة من مستشفياتنا الخاصة على الأقل يومياً، ولا أحد يحاسب بالتأكيد، فهذه الواقعة غير الاستثنائية بتكرارها وآجال حدوثها تعبر عن فلسفة تنتهجها غالبية مستشفياتنا الخاصة، والتي لا تعير الاعتبارات الإنسانية أي اهتمام، متناسية أن مهنة الطب مرتبطة بالرحمة، وليس بالمال أساساً، فألف باء الاجتماعي مازالت حتى اليوم غائبة عن القطاع الخاص المستثمر في المجال الصحي..

وهذه الصورة الكارثية لتعامل القطاع الخاص الصحي لدينا لا يقف عند هذا الحد، بل إن متابعة حالة التطور الأفقي الذي تشهده المستشفيات الخاصة العاملة في سورية يؤكد حتمية التراجع، فعدد هذه المستشفيات قد ارتفع بمقدار 48 مستشفى خلال الخطة الخمسية التاسعة، وبنسبة تطور تصل إلى 14،7%، أما بالنسبة لعدد الأسرة فقد ارتفعت بمقدار 1544 سرير، وبنسبة تصل إلى 26.5%، وأما بالنسبة للسنوات الخمس من عمر الخطة الخمسية العاشرة (2006 – 2010)، فإننا نجد أن عدد المستشفيات الخاصة قد انخفض بنحو 3 مستشفى خاص، أما بالنسبة لعدد الأسرة فقد ارتفع بمقدار 1154 سرير، وبنسبة زيادة تصل إلى 15.6%، فكيف انخفض عدد المستشفيات الخاصة في السنوات الأخيرة بينما ارتفع عدد الأسرة بأكثر من 1100 سرير، وهذا يعادل قوام 30 -40 مستشفيات خاصة تقريباً؟! وعلى حساب من تمت هذه الزيادة؟! بالتأكيد تم ذلك على حساب راحة مرضى المستشفيات الخاصة من خلال زيادة عدد الأسرة في الغرف، لأن المستشفيات الخاصة لم تشهد زيادة أفقية في تعدادها في السنوات الخمس السابقة، وبالتالي لم تعد تتمتع خدمة هذه المستشفيات بالتميز والمهارة التي كان يحكى عنها في السابق..

 

إنفاق متراجع

من الملاحظ تراجع الإنفاق الحكومي في سورية على الصحة، حيث تشير آخر التقارير إلى أن نسبة إنفاق الحكومة على الصحة لا يتعدى 3.2% من إجمالي الناتج المحلي في العام 2010، كما تراجعت نسبة الإنفاق الحكومي على الصحة من جملة الإنفاق الحكومي العام بلغ نحو 6%، ولم تتجاوز حصة المواطن السوري من إجمالي الإنفاق على الصحة 79 دولاراً أمريكيا، ورقم الإنفاق المنخفض ليس في العام 2010 فقط، بل إن موازنة الصحة في سورية تتراجع بشكل دائم قياساً بالناتج الإجمالي، حيث كانت النسبة الإجمالية لإنفاق سورية على الرعاية الصحية (مجموع النفقات الصحية العامة والخاصة) بحدود 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2005، أي أن الإنفاق على الرعاية الصحية تراجع بمقدار 1% من الناتج المحلي في خمس سنوات، فالإنفاق السوري على الصحة في تراجع مستمر، بينما الإنفاق الصحي العالمي يسير في الاتجاه المعاكس، فالحكومات على مستوى العالم تسعى لزيادة إنفاقها على الرعاية الصحية، وللمقارنة بين إنفاق سورية على الصحة مقارنة بغيرها من الدول، تم الاستعانة بأرقام البنك الدولي في العام 2007، ففي الوقت الذي كان فيه إجمالي إنفاق سورية على الرعاية الصحية لا يتعدى 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي، كان إنفاق الأردن على الصحة بحدود 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وإنفاق الأرجنتين على الصحة بحدود 10% من الناتج المحلي الإجمالي، أما إنفاق البرازيل فقد كان 8.4% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما كان إنفاق إسبانيا على الصحة 8.5% من الناتج الإجمالي، وإنفاق أثيوبيا على الصحة – على الرغم من كونها أفقر الدول عالمياً- نحو 3.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وإنفاق دولة أرمينيا على الصحة بحدود 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي، والجزائر كانت تنفق على الصحة 4.4% من ناتجها المحلي الإجمالي، وإنفاق السويد على الصحة كان يبلغ 9.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وألمانيا أنفقت 10.4% من ناتجها المحلي الإجمالي على الصحة، أما في الولايات المتحدة، فإن إنفاقها على الرعاية الصحية مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي وصل إلى 51.7%.

وفي المؤشر العام، وجدنا أن الدول التي تنفق على الصحة بنسبة تقلّ عن 4% من ناتجها المحلي الإجمالي لم يتجاوز عددها 26 دولة عالمياً، وسورية واحدة من هذه الدول، وذلك مقارنة بنحو 210 دولة شملتها دراسة البنك الدولي في العالم، أي أن ترتيبنا لا يتعدى في أحسن الأحوال المرتبة 190 عالمياً من حيث الإنفاق على الصحة والرعاية الصحية، وهذا يؤكد حجم الإنفاق المنخفض على الصحة في سورية، حيث سبقتنا في الترتيب العديد من الدول الإفريقية والعربية، وأغلب الدول الأسيوية، أي أن ترتيبنا بين دول العالم الثالث يعتبر منخفضاً أيضاً وليس على المستوى العالمي فقط!..

hassan@kassioun.org