تدمر: الرسائل الرمزية والفعلية..
ترددت أصداء الموسيقى الكلاسيكية لفرقة أوركسترا مسرح «مارينسكي» الروسية في أرجاء مدينة تدمر الأثرية، وعلى مسرحها التاريخي يوم الخميس الفائت، بعد انقضاء ما يقارب الشهر على تحريرها نهائياً من يد تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي سبق له أن استخدم المسرح ذاته خشبة لعروض إعدام جماعي ارتكبها بحق السوريين.
«الحدث الموسيقي»، الذي قد يبدو ثانوياً في خضم محاولات التصعيد والتدمير الحاصل، والذي بدأ بكلمة قصيرة ألقاها الرئيس الروسي على حضور الحفل عبر «جسر تلفزيوني»، له أبعاده ورسائله السياسية والعسكرية والإنسانية، والتي يمكن تكثيفها بالنقاط التالية:
أولاً: إنّ هذا الحفل هو تكريس لأول انتصار كبير في وجه «داعش» منذ ظهورها، وهو الانتصار الذي أحرج، ولا يزال يحرج، واشنطن وتحالفها وحلفاءها الدوليين والإقليميين، وهو بذلك تأكيد على دور روسيا الجدي في مكافحة الإرهاب الدولي بمقابل الأدوار الغربية المشبوهة وغير الواضحة، على أقل تقدير.
ثانياً: إنّ رمزية اختيار فرقة «مارينسكي» تأخذ الاستنتاج إلى أعمق من ذلك، فهذه الفرقة هي فرقة مدينة لينيغراد المدينة التي اسمها الثاني، هو «بالميرا روسيا»، أو تدمر روسيا، وهي المدينة التي حوصرت من النازيين لما يقرب من ثلاثة أعوام خلال الحرب العالمية الثانية، والتي كان فك الحصار عنها نقطة مفصلية في تلك الحرب، تلاها مباشرة انتصار ستالينغراد، وصولاً إلى النصر النهائي خلال السنة التالية.. إنّ هذه الإشارات التاريخية الكامنة في هذا الحدث تشير إلى رسالة واضحة هي أنّ الانتصار النهائي على الفاشية الجديدة، فاشية القرن الحادي والعشرين، التي تظهر في منطقتنا على شكل داعش والنصرة وحلفائهما، وفي أوروبا وغيرها على شكل يمين قومي متطرف، لم تعد بعيدة، بل باتت مسألة في متناول اليد.
ثالثاً: إنّ روسيا إذ تقدم نفسها كمحارب جدي للإرهاب، فإنّها تقدم نفسها أيضاً كحامل لرسالة إنسانية وحضارية جوهرها العلاقات الندية بين الدول والأخوية بين الشعوب، على خلاف الطريقة الأمريكية- الغربية المتعالية والمتكبرة والمستغلة.
رابعاً: إنّ التوازي بين إقامة هذا الحفل واستمرار الإصرار الروسي على جنيف3، وعلى الهدنة، وعلى الحل السياسي كإطار وكخط سير وحيد لحل الأزمة السورية، يعني فرزاً واضحاً بين مهمتين أساسيتين:
الأولى: هي محاربة الفاشية الجديدة، ومنها الإرهاب، حتى الإجهاز عليها نهائياً.
الثانية: هي توسيع نطاق الهدنة بين السوريين إلى الحد الأقصى، بما يعني استكمال عملية فرز المسلحين بين مناصر لـ«داعش» و«النصرة»، وبين معادٍ لهما، وهي العملية التي تسعى قوى متشددة من مختلف الأطراف إلى تشويهها. فمن جانب يسعى البعض إلى وضع مختلف المسلحين في سلة واحدة «إرهابية»، ما يعني إعادة رفع شعار «الحسم العسكري» ولكن مموهاً بستارة محاربة الإرهاب، وهو ما يراد منه توظيف منصة «الحل السياسي» وسيلة لإحياء منطق «الحسم العسكري الصرف الشامل». ومن جانب مقابل، هنالك من يسعى إلى إطالة عمر داعش والنصرة، وتمويه حلفائها بقناع الاعتدال لإبعادهم من «تحت الضرب» أملاً بالاستفادة السياسية من محصلة هذه القوى، وصولاً إلى تحويل «الحل السياسي» إلى منصة لتنفيذ خططهم غير الواقعية ذاتها في «إسقاط النظام»!
إنّ الاتجاهين المتشددين يتقاطعان اليوم برغبتهما في التصعيد وتأجيل الحل السياسي الحقيقي الذي تدفعه قدماً عمليات محاربة الفاشية الجديدة، والتوافق الدولي على وحدانية الحل السياسي، والذي باتت ملامحه العامة واضحة، وبات جلياً فيها أنّ أصحاب البرامج المتشددة خاسرون فيها، أياً كانت الجهة التي يصطفون فيها.