العملية الروسية: فرضت السلم.. طوعت واشنطن.. وعادت غانمة
تتعدد القراءات المجتزأة لسحب القوات الروسية الأساسية الموجودة في سورية، ولكنها تأخذ بعدين رئيسيين، بين من يرى بأنها «رغبة لإرضاء أطرف دولية، وتنازل في المفاوضات»، وبين من يصر على أنها «أداة للضغط على الحكومة السورية، وتركها وحيدة لتحارب الإرهاب».. والجميع، بهذا المعنى، يحاول أن يخفف من وقع القرار الروسي، حيث أن «انسحاب» المنتصر عسكرياً وسياسياً له «وقع ثقيل»..!
بعد يومين من اجتماع الرئيسين الروسي والأميركي في الأمم المتحدة بنيويورك، أدخلت روسيا قواتها العسكرية إلى سورية بتاريخ 30-9- 2015، حين توضح بأن الدعوة الروسية لإقامة تحالف دولي موحد لمحاربة الإرهاب، قوبلت بمماطلة من الولايات المتحدة، وقرار ضمني بمد آجال الحرب، التي كانت في لحظتها تهدد وجود الدولة السورية.
عززت القوات الروسية وجودها العسكري في سورية بشكل كبير، وبوقت قياسي، وكانت فترة خمسة أشهر ونصف، بين30-9-2015 و15-3- 2016، كافية لتحقق محاربة جدية للإرهاب، حيث بدأ بالتراجع والانحسار للمرة الأولى خلال الحرب السورية، وتم ضرب طرق الإمداد والتمويل الرئيسية. وفتحت المعركة بوضوح مع «إسناد» تركيا للإرهاب في سورية، وهذا كله قلّص وقت المماطلة الأمريكية، مما أدى إلى الوصول إلى ترجمة سياسية سريعة للعمل العسكري الناجح، انعكست في تجاوب واشنطن، وعملها- تحت ضغط النجاح العسكري الروسي- على إنجاح اتفاق وقف العمليات العدائية، وضمان استمراريته، وإعادة إطلاق المفاوضات في جنيف.
يضاف إلى ذلك ما يمكن أن يُقرأ من الإشارات الروسية، في مسألة مكافحة الإرهاب، فروسيا تزامن بين أمرين في غاية الأهمية: المفاوضات السياسية- ومحاربة الإرهاب، وتعتبر أنه بعد عتبة معينة من العسكرة، كانت ضرورية لحماية بقاء الدولة السورية، وإيقاف تمدد الإرهاب، فإن استمرار العملية لن يكون إلا بالوصول إلى حلول سياسية حقيقية في سورية، تلأم الجراح، وتوحد الصف، وتنتهي إلى محاربة جدية للسوريين معاً للإرهاب، أي أن الروس يعلنون موقفهم المتضمن أن محاربة الإرهاب هي مسألة ذات بعد دولي، ولكنها أيضاً مهمة سياسية وطنية للدول المعنية، التي تركت صدوعاً عميقة في مجتمعاتها تسمح بتفشي الإرهاب، وهذا أولاً.
أما ثانياً، فإن التأكيدات الروسية اليوم على استمرار دورها الفاعل في الحرب على الإرهاب، المترافقة مع الحديث حول التنسيق الأمريكي الروسي، تشي بعودة فكرة تنسيق العمل الدولي، وإعطاء مهمة «مكافحة الإرهاب» بعدها كمهمة سلم دولية مشتركة، لا تقوم بها دولة منفردة بصفتها «شرطي العالم»، كما فعلت وتحاول أن تفعل الولايات المتحدة الأمريكية، في مساهمتها بخلق وتعزيز ظاهرة الإرهاب، واستخدامها في توليد الحرب والعنف بشكل مستمر، أي أن التنسيق المشترك لمكافحة الإرهاب، يسحب هذه الأداة من يد «قوى الحرب» العالمية.
عملياً، يعيد الروس قواتهم الأساسية من سورية إلى روسيا، لأنهم أنجزوا الجزء الأكبر من المهمة العسكرية، وحققوا تقدماً حاسماً في المهمات السياسية: فهم حافظوا على الدولة السورية التي كانت مهددة، وأظهروا كيف تكون المحاربة الجدية للإرهاب، والأهم أنهم دفعوا الأمور باتجاه طريق السلم والحل السلمي على اعتبار أن مسار مكافحة الإرهاب لا يمكن أن ينجح دون الحل السياسي في سورية أو أية دولة أخرى، وصولاً إلى أنهم وضعوا الولايات المتحدة في موقع المضطر لدفع العملية السياسية، والتنسيق في مكافحة الإرهاب، بعد أن تمنعت وماطلت في أيلول 2015، وتطلب الأمر فرض السلم والشرعية الدولية، بقوة السلاح العسكري الروسي..
فهل بعد هذه الإنجازات السياسية كلها نستطيع القول أن الروس قد «انسحبوا» بعد أن فرضت عليهم المفاوضات ذلك؟ أو أن الروس «انسحبوا» ليتركوا سورية للإرهاب!
الانتصار العالمي اليوم لأية قوة سياسية تعمل على الساحة الدولية، معياره تقليص رقعة الحرب، في كل موضع ممكن، وهذا ما فعلته الآلة العسكرية الروسية في سورية، والذي لا يمكن استكماله دون نجاح السوريين في جنيف بإتمام المفاوضات، مع ما يتطلبه هذا من رفع أدائهم السياسي، إلى مستوى مجابهة الكارثة الإنسانية..