تدخل روسيا و«انسحابها»: حرب على «الحرب على الإرهاب»
خمسة عشر عاماً، تحول فيها مصطلح «الحرب على الإرهاب» إلى مرادف لبلاد سليبة، ولآلاف الجثث المشوهة، وملايين المنازل وعموم البنى التحتية المهدمة التي خلفتها الطائرات المقاتلة الغربية- الأمريكية تحديداً.
قبل 15 عاماً من الآن، وفي 20/9/2001 تحديداً، وقف الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش، ليعلن للعالم ما درج على تسميته باستراتيجية «الحرب على الإرهاب»، خالقاً بذلك عدواً جديداً لواشنطن بعد تفكك الاتحاد السوفييتي 1991، الذي كان وجوده سبباً كافياً بحد ذاته لتخوض واشنطن حروبها باسم مكافحة الشيوعية، باعتبارها «خطراً محدقاً على البشرية»، يجب الخلاص منه، مما فتح لها مساحات واسعة للنشاط العسكري المباشر وغير المباشر.
منذ ذلك الحين، وحتى اليوم، كانت اليد الأمريكية في صنع «القاعدة» ونشأتها واضحة للجميع، باستثناء بيادق المتلبرلين المقاتلين على رقعة الشطرنج العالمية، من حكام وسياسيين وأصحاب أقلام حرة ((فقط في كتابة ما يريد الغربي له أن يتحول ثابتاً بديهياً في الوعي الجمعي لشعوب العالم)).
خمسة عشر عاماً، استدعت الويلات على شعوب العالم. ويلات واشنطن، التي خلقت لنفسها- دون الرجوع إلى أية شرعة دولية- «حق التدخل العسكري، بمجرد الشك بتراكم قدرات معينة لدى العدو تمكنه من تهديد أمننا القومي في المستقبل». وكانت بعدها تدخلات عسكرية مباشرة في العراق وأفغانستان وغيرها، وتدخلات غير مباشرة، تمت عبر الاستفادة من مستوى التحكم الاستخباراتي الأمريكي العالي بالتنظيمات «الجهادية» التي أريدَ لنا أن نصدق أنها ليست سوى نتاجاً مباشراً لتخلفنا، نحن بلدان «العالم الثالث». تدخلات هدمت واشنطن خلالها دولاً، وقمعت شعوباً، وأسقطت أنظمة، وأعادت إنتاجها بأشكال «توافقية» ومضامين أردأ وأكثر استبداداً.
ظرفان فقط، دفعا الإدارة الأمريكية إلى الانسحابات المعلنة وغير المعلنة، من المستنقعات التي أوقعت نفسها فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الانسحابات لم تزل غير ناجزة حتى اليوم. الأول: هو تغير موازين القوى الدولية، والتراجع العام في الوزن النوعي السياسي والاقتصادي والعسكري لواشنطن. أما الثاني: فهو المقاومة الشاملة، وبشتى أشكالها، التي خاضتها الشعوب المتدخل في أمرها أمريكياً.
على هذا الشكل كانت مقدمات التدخلات الأمريكية.. وعلى هذا الشكل كانت الانسحابات...
منذ بدء العملية العسكرية الروسية في سورية، لم يكن المسؤولون الروس أقل صراحة ووضوحاً مما هم عليه اليوم. منذ البدء، لم يبق مسؤول روسي واحد لم يعلن أن العمليات العسكرية لبلاده مؤقتة، وهادفة إلى الحفاظ على المسارين المتوازيين لحل الأزمة السورية: الحل السياسي والحوار السوري- السوري وفقاً لبيان جنيف، ومحاربة الإرهاب الموجود على الأراضي السورية، بطلب رسمي من الحكومة السورية القائمة.
لم يقبل طرفا الاحتراب السوري أخذ ذلك بعين الاعتبار، وكعادة الطرفين، قولب كل منهما العملية العسكرية الروسية على طريقته. على الإعلام «المعارض»، بات التدخل الروسي تدخلاً لحماية النظام السوري. وروج الإعلام «الموالي»، للتدخل الروسي، ليبدو وكأن الروس قد دخلوا البلاد لتنفيذ «طلبية» لأنصار الحسم العسكري والقوى المتشددة داخل النظام السوري.
في هذا الوقت، كانت التقارير الدقيقة تخرج دورياً من وزارة الدفاع الروسية عن العمليات العسكرية التي جرت على الأراضي السورية، وأهميتها في قطع دابر الإرهاب المتمثل في «داعش» و«النصرة» وتفرعاتهما، وفي ضرب التجارة بالنفط السوري التي كانت الحكومة التركية أحد أكبر المستفيدين منها.
أنجزت الوحدات الروسية الموجودة على الأراضي السورية مهمتها على المسارين العسكري والسياسي. وربما الأرقام ستخرج لاحقاً لتعلن عما حققته العمليات الروسية بمجملها من ضرب جذري لمكامن القوة التي كانت متوافرة لدى تلك التنظيمات قبيل الدخول الروسي إلى البلاد.
ومع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سحب القوات الروسية الرئيسية من سورية، نعود لنسمع التخبط والتضارب في تحليل الحدث وتداعياته وأسبابه، وطبعاً ضمن القوالب الجاهزة لوسائل الإعلام المذكورة آنفاً، ليؤكد أحدهم أن الانسحاب الروسي جاء ليعكس تغيراً في الموقف السياسي لروسيا، ويجزم آخرٌ أنه نتاج للـ «تورط» الروسي في سورية، ويجهش آخر بأن الروس قد تركوا سورية وحيدة..
الأكيد من ذلك كله، أن سبب هذا التخبط لا يكمن فقط عند الخطوط الحمراء السياسية الموضوعة على الوسائل الإعلامية التي تتغنى بالشفافية والصدق ونقل الواقع كما هو، إنما في تلك العقلية المشكلة على مدار سنوات السيادة الأمريكية على العالم، والتي لا يمكنها تصور حربٍ جدية ضد الإرهاب وسعي جدي للحلول السياسية، بما يضمن الحفاظ على الدولة السورية، ووحدة أراضيها.