لماذا لا نستفيد من تجارب المنتصرين؟؟

شكل وصول الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز إلى سدّة الرئاسة عام 1998 بداية لتقدم قوى اليسار في أمريكا اللاتينية التي عانت من الهيمنة الأمريكية طوال عقود، ووجه هذا الانتصار صفعة جديدة لقوى الثورة المضادة في أمريكا اللاتينية، قوى الديكتاتوريات العسكرية الليبرالية الموالية للغرب، وجاء امتدادا لثورة كوبا التي تنتمي إلى الموجة الثورية السالفة، موجة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ثورة كاسترو الذي لم يستطع وفقاً للظروف الموضوعية في بلده وموازين القوى الدولية في القرن العشرين أن يشكل أكثر من نموذج معنوي وروحي لثوريي أمريكا اللاتينية، في حين ظلت هذه القارة على مدى عقود تفتقر إلى النموذج السياسي والاقتصادي- الاجتماعي العملي القادر على تمثيل مصلحة شعوب القارة اللاتينية، والتعبير عن المجابهة الشعبية للمشاريع الإمبريالية في القارة والعالم. هذا النموذج المطلوب عَمل عليه قادة اليسار المتجذّر تاريخياً في القارّة، وكان نموذج كاسترو المعنوي هو منصة الانطلاق المعاصر الذي بدأ مع تشافيز وشمل معظم دول أمريكا اللاتينية، وشكلت فنزويلا النموذج العملي المطلوب..

لم يتجاوز عمر فنزويلا ذات اشتراكية القرن الواحد والعشرين والمناهضة للإمبريالية الأمريكية 14 عاماً، في حين أن بلداً مثل سورية الذي يمتلك خصائص استراتيجية هامة أمضى قرناً بأكمله في مناهضة السياسات الاستعمارية ولم يتثبت فيها أي نظام غير وطني، وعلى الرغم من ذلك سار كل من البلدين في طريقين أوصل كل منهما إلى نتيجتين متناقضتين، علماً أن البلدين يقفان في نفس والخندق نفسه في الصراع الدولي، لنرَ ماذا تحقق في البلدين..

استطاعت فنزويلا، القريبة جغرافياً من الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحول مجموعة من الانتصارات الصغيرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى تحول كبير على مستوى قارة كاملة، كانت تعد حديقة خلفية للولايات المتحدة، فقد تم تخفيض البطالة من 18% في 2003 إلى 8% في العام الحالي، وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي، وتم تخفيض مستوى الفقر حتى النصف، وسجلت أعلى نسبة إقبال على التعليم في العالم في العام الحالي، واستطاع تشافيز تأميم شركات النفط في بلده الذي يمتلك أكبر احتياطي نفط في العالم يقدر بـ 3 آلاف مليار برميل نفط، وتوظيف عائدات النفط في التقديمات الاجتماعية، ومشاريع طبية هامة بمساعدة كوبا في مقدمتها إعادة البصر إلى 20000 ضرير في فنزويلا، والعديد من الإنجازات الأخرى تمت بقيادة تشافيز القريب من الجماهير الفقيرة والبسيطة، وجعلت بلده يثبت إمكانية نجاح الثورة التي بشّر بها كاسترو وغيفارا وراؤول وجميع ثوريي أمريكا اللاتينية. تلك الانجازات أعادت الثقة لملايين الفنزويليين الفقراء بالحياة السياسية والنضال إلى جانب ممثليهم الحقيقيين، ومكنت تشافيز من الفوز في العام 2012 في أكبر صراع انتخابي مع قوى اليمين، على الرغم من المساعي الغربية المحمومة لإسقاط تشافيز بواسطة الضخ الإعلامي والمالي. تشافيز لا يخشى الديمقراطية التي لطالما كانت حجة الغربيين على أعدائهم الحقيقيين، وتمكن بثقة للمرة الثالثة من خوض هذا المعترك على الرغم من مستوى التدخلات المباشرة وغير المباشرة، وانتزع اعترافاً من الولايات المتحدة وأوربا بانتصاره وهزيمة مرشحهم في هذه المعركة الانتخابية..

أما في سورية فسارت الأمور بشكل معاكس، حيث شكّل تبنّي السياسات الاقتصادية الليبرالية بداية التراجع في الدور السوري الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، والحديث هنا قبل انفجار الأزمة، فقد زادت معدل البطالة إلى أن طالت ربع القوى العاملة في سورية، وزاد الفقر من 30% قبل الخطة الخمسية العاشرة حتى 44% بعدها، وتراجعت الدولة نتيجة لذلك عن دورها في التعليم والصحة والخدمات.. الخ، الأمر الذي جهز الأرضية لانفجار الأزمة بالشكل الذي نشهده حالياً القائم على استخدام المهمشين وقوداً للنزاع المسلح، إضافة إلى تراجع الحريات السياسية وفقدان الثقة بقدرة جهاز الدولة على اجتراح الحلول، كل هذه الأشياء جرت في وقت أزمة الرأسمالية الاقتصادية، أي في الوقت الذي بدأت جميع الدول تعيد النظر بعملية الانفتاح الاقتصادي وأضراره، الأمر الذي يدلل على العمر الحقيقي للاختراق في الدولة السورية..

في الوقت الذي تحتفل فيه فنزويلا وشعبها بالانتصار ليس على اليمين فحسب بل على نظام دولي معاد لهم ومنحاز ضدهم، تتزايد في سورية أعمال العنف ومستويات التدخل الدولي في أزمتها التي تتعمق ليس بنتيجة الأخطاء الحالية فقط، بل كنتيجة لتوجه كامل استمرّ عقداً من الزمن، ولاتزال نتائجه تزيد من آلام البلاد وجراحها..

إن طريق الخروج من الأزمة السورية هو عكس طريق الدخول إليها، ولن تنتهي الأزمة السورية بشكل تام إلا عبر إزالة آثار النموذج السابق، وبناء نموذج جديد يسترشد بهدى من سبقونا في احراز الانتصار..    

آخر تعديل على الثلاثاء, 09 شباط/فبراير 2016 15:08