أزمة المراكز وأزمة الأطراف
لم يعد يختلف اثنان اليوم - من العقلاء طبعاً – على وجود أزمة بنيوية عميقة تفتك بجسد الرأسمالية كمنظومة اقتصادية اجتماعية سياسية، ومع كل أزمة من هذا النوع يضطرب العالم من أقصاه إلى أقصاه، وكان من الطبيعي أن تظهر النتائج الأكثر حدّة في دول الرأسمالية الطرفية، التي تعتبر جزءاً من منظومة الرأسمال العالمي وذلك بسبب حجم التناقضات وحدّة الصراع الداخلي أولاً، وبسبب محاولات المراكز الرأسمالية حل أزمتها على حساب بلدان الأطراف كما فعلت سابقاً، عبر شكل جديد للتحكم بالثروة لها آلياتها الخاصة المتوافقة مع تطور الرأسمالية نفسها في كل مرحلة تاريخية.
نعتقد أن الرأسمالية المركزية في المرحلة الراهنة تحولت تماماً إلى النموذج الشايلوكي الربوي في الاقتصاد! (الرأسمال المالي) و النموذج الميكيافيلي في السياسة، والغوبلزي في الدعاية، والنازي في الجانب العسكري، والفرويدي في الجانب الثقافي والروحي، وهي إن كانت قد لعبت دوراً تاريخياً تقدمياً في تطور القوى المنتجه، إلا أنها في الوقت نفسه منعت امتداد ذلك إلى الأطراف فأصبح العالم عالمين في واقع الأمر، فالرأسمالية المركزية لم تنظر إلى الدول الرأسمالية الطرفية يوما إلا كونها مصدر مواد خام وأدمغة من جهة ومستهلكة لما يصنعه المركز من جهة أخرى. ومن أجل ذلك لجأت إلى الدمج القسري للعالم بالحديد والنار تارة - في مرحلة الاحتلال المباشر- وتارة الدمج بالهيمنة من خلال آليات الاستعمار الحديث وتارة أخرى بالأسلوبين معا كما تفعل في ظل هيمنة الرأسمال المالي.
إن تفجر الأزمة في الأطراف بشكل حاد، هو انعكاس لعمق الأزمة في المركز أولاً، الذي طالما اعتاش على حساب هذه الأطراف نحن هنا لانقصد التآمر بمعناه المبتذل كما تزعم الأنظمة الساقطة أو الآيلة الى السقوط بل بمعنى الطبيعة الداخلية للرأسمالية نفسها فالرأسمالية المركزية الناهبة والمأزومة، لن تجد بيئة أخصب من تلك التي أوجدتها الرأسمالية الطرفية التابعة في البلدان المنهوبة كي تفرغ فيها ازمتها بعد أن لعبت البرجوازية الطرفية على مدى عقود دور الكومبرادور وأشبعت شعوبها بؤساً وفقراً وحرماناً وقهراً اجتماعياً لمصلحة المراكز الرأسمالية مقابل فتات النهب الذي تقوم به، بيئة قابلة للانفجار بحكم تناقضاتها الداخلية التي تعكس طبيعة النموذج الرأسمالي المنهوب لمصلحة المركز.
رأسمالية الأطراف تختزل أسوأ ما أنتجته الرأسمالية المركزية وتضيف إليها الجانب الرجعي الظلامي في بنى المجتمعات الفلاحية، فهي لم تلعب دوراً ثورياً في مرحلة نشوئها، وهي تفتيتية عكس الرأسمالية الاوربية الموحِدة لأنها لم تستكمل بناء عناصر الدولة، ولم تستثمر الثروة المنهوبة في داخل بلدانها في القطاعات الانتاجية بحكم تبعيتها فارتبطت بحبل السرة مع الرأسمال الدولي، وهي قمعية حكماً لإنها لم تستطع خلق التوازن بين الطبقات الاجتماعية فالقمع سلاحها الأساسي في ضبط تناقضات المجتمع، ولما كان الأمر كذلك فإن الأزمة تتفاقم، وكلما تفاقمت الأزمة أكثر ازدادت امكانية التحكم بمآلات تطور بلدان الأطراف لما تملكه من هيمنة إعلامية قادرة على التأثير على الرأي العام واستخبارتية تخترق أطراف الصراع المختلفة.
نستنتج ونقول: الازمة هي أزمة النظام الرأسمالي، تتجلى بهذا الشكل أو ذاك حسب خصائص البلد المعني، وتوازن القوى فيه، وتوازن القوى الدولية والمحلية، ومن هنا فإن الشرط الأساسي لتجاوز الازمة والولوج إلى عصر تاريخي جديد يكمن في توجيه النار على رأس الأفعى وامتداداته المحلية وهي القوى الليبرالية، الأمر الذي يعبر عنه باللغة السياسية بالوقوف ضد التدخل الخارجي، والنضال من أجل عملية التغيير الحقيقي الجذري والشامل.