نور طه نور طه

استهداف القيم السورية

يدرك المتابع للأزمة السورية بتشعباتها المختلفة وتركيباتها المعقدة أن العامل الأساسي الذي يحول دون انزلاق البلاد إلى أتون حرب أهلية طائفية قذرة هو وعي الشعب السوري ، بشقيه السياسي والوطني.

لقد لعب الغياب شبه التام للحريات السياسية والذي امتد على مدى العقود الماضية دوراً أساسياً في خنق البيئة اللازمة لتشكل الوعي السياسي الأمر الذي أدى إلى إضعاف دوره وحرم غالبية السوريين منه باعتباره واحداً من أهم الأسلحة قوة في معركة الدفاع عن الحقوق.
وقد يكون انخفاض الوعي السياسي هذا أمراً مفهوماً لجملة أسباب يتقدمها ما ذكرناه عن الغياب المزمن للحريات السياسية إضافة لغياب القوى السياسية المعبرة عن مصالح الجماهير وانقطاع الصلة ما بين النخب الثقافية وعامة الناس.
وفي حين أن الوعي السياسي أمر يُكتسب بالعمل والبحث والتجربة، فإن الوعي الوطني شيءٌ لا يمكن الوصول إليه عبر اتباع دورات تعليمية أو عن طريق كتب إرشادية، حيث يعد تكون الوعي الوطني مرتبطاً بشعور الفرد بالانتماء لهذه البقعة الجغرافية أو تلك بكل ما يتضمنه الانتماء من أوجه.
وبالتالي فإن الأمر غير المفهوم والذي ليس له أي مبرر على الإطلاق هو الدرجة المتدنية التي وصل إليها الوعي الوطني لدى بعض (النخبة ) مؤخراً، والذين تقع على عاتقهم مسؤولية التأثير في المجتمع ككل.
فمن منظور ماركسي، فإن الطبقة المهيمنة في المجتمع ( النخبة ) تطبع المجتمع كاملاً بطابعها، وبالتالي فإن ما يقوم به البعض من تحميل الناس العاديين لمسؤولية التخلخل الذي أصاب الوعي الوطني وإغفال الأسباب الحقيقية التي تقف وراءه يعد ضرباً من السطحية والسذاجة السياسية، وبالحديث عن الأسباب نذكر أهمها :
السلوك العنفي الذي مارسه متشددو الطرفين طوال فترة الأزمة

الضخ الإعلامي النوعي الخارجي من جهة وتخلف الإعلام الوطني من جهة أخرى
إضافة لما ذكرناه آنفاً عن الانخفاض الكبير والطويل الأمد الذي أصاب الحياة السياسية بكل مفرداتها.
ومن الجدير بالذكر أن عملية الطمس بالغة الخطورة للوعي الوطني السوري تترافق مع عملية استهداف متكاملة للقيم العليا والرموز الوطنية السورية، ومن هذه الزاوية يمكننا فهم رمزية ما تم يوم 16/8/2012 من استهداف لقيادة الأركان العامة، حيث أظهرت إحدى الصور ( المؤلمة ) تمثال الشهيد البطل يوسف العظمة، والذي كان منصوباً في مدخل قيادة الأركان، وقد قُذف من مكانه وقطعت يده التي كانت تحمل سيفه وتضرر بشكل بالغ. وهنا يقف سؤالٌ بلاغي لا حاجة للإجابة عليه : من المستفيد من هذا ؟
كما لم يعد يخفى على أحد الانتشار والاستخدام المتزايد لبعض الأفكار التي تمس بمنظومة القيم السورية كاملةً من بعض الناس حديثي العهد بالعمل السياسي وهنا نعيد التأكيد على أن مسؤولية ما يطرحه هؤلاء البعض لا تقع على عاتقهم لأن غالبيتهم العظمى غير مدركة لخطورة هذا الطرح، وإنما اللوم كله يقع على عاتق النخب التي تقوم عن سابق وعي وإدراك بنشر هذه الأفكار التي من شأنها تدمير النسيج السوري بأكمله.

وهنا بعض الأمثلة الواقعية على هذه الأفكار :
- أمريكا وأوروبا وتركيا ودول الخليج العربي هي دول حليفة للشعب السوري وحريصة على مصالحه.
- التدخل العسكري هو أقصر الطرق لإسقاط النظام وبعد أن يسقط النظام سيغادر ( الأصدقاء ) الذين ساهموا في إسقاطه دون أي طلبات أو أطماع.
- الجيش العربي السوري جيش خائن.
- النظام هو الشر الأكبر وينبغي التحالف مع الشيطان إذا لزم الأمر للتخلص منه.
أي حديث عن الجولان المحتل أو القضية الفلسطينية أو مجرد ذكر لمفردات كالمقاومة والممانعة والوقوف في وجه المشروع الصهيو- أمريكي يعني حكماً أنك في صف النظام وتؤيده بكل ما يفعل.
إن كل من يتظاهر حتى ولو بشكل سلمي هو إنسان خائن وعميل وممول من دول الرجعية العربية لتدمير البلاد.
هذه الأمثلة وغيرها تشكل في حال استمرار واتساع طرحها استهدافاً خطيراً وغير مسبوق للقيم الوطنية التي نشأ عليها السوريون منذ مرحلة قيام الدولة الوطنية، الأمر الذي من شأنه تعقيد الأزمة الوطنية ونقلها إلى مراحل أعلى وأكثر كلفة على البلاد والعباد.
إن المهمة الكبيرة والمستعجلة اليوم أمام الوطنيين كافة هي مواجهة هذه الظاهرة والنخب المروجة لها عبر إزالة مسبباتها الحقيقية وحماية آخر خطوط دفاع الإنسان السوري عن سوريته وانتمائه وإرثه التاريخي ووعيه الوطني الذي بني بدماء وتضحيات الآلاف من الشهداء والأبطال والرموز الوطنية التي هي ليست ملكأ لنظام أو معارضة  بل هي قيم عليا تتوارثها الأجيال على مدى عشرات السنين من النضال المتواصل في سبيل حقوق وحرية وكرامة سورية أرضاً  وشعباً