ما العمل الآن...؟

انتهت انتخابات مجلس الشعب وصدرت نتائجها الرسمية، وكانت مخيبة لآمال السوريين كافة لأنها لم تخرج عن منطق وآليات الماضي المحكوم بالمادة الثامنة القديمة من الدستور السوري... وكان المؤتمر الصحفي لرئيس اللجنة الانتخابية العليا تعبيراً مكثفاً عن مدى المأساة التي وصلت إليها البلاد في ظل مواقع مفتاحيّة في جهاز دولة لا تفكر إلا بالحفاظ على امتيازاتها وقدرتها على التحكم بشؤون البلاد والعباد دون أن تقدر التأثير السلبي لذلك على الأزمة المستمرة منذ خمسة عشر شهراً...

كان يمكن للانتخابات أن تكون مدخلاً جدياً للعملية السياسية الشاملة التي طالما انتظرها السوريون للوصول إلى المخرج الآمن من الأزمة، وقد تحولت مع الأسف إلى فرصة ضائعة جديدة إلى جانب الفرص السابقة العديدة
إن الإضاعة المتلاحقة للفرص تضيّق هامش الحلول الداخلية البحتة التي يجب أن يصنعها السوريون بأنفسهم، وتوّسع من جهة أخرى هامش الحلول الخارجية التي ليس هنالك من ضمانة أن تجري مع نسبة تزيد أو تنقص من الإملاءات والتدخل الخارجي مع ما يحمله ذلك من مخاطر على السيادة الوطنية والوحدة الوطنية وحتى على وحدة البلاد.
إن الدرس الأساسي من التجربة الأخيرة أثبت أن الحديث عن التغيير شيء وإجراء التغيير شيء آخر، فبينهما بون لا تردمه إلا الإرادة السياسية المستندة إلى الإرادة الشعبية والفعل الواعي المدروس للقوى الطليعية في المجتمع.
لذلك يصبح السؤال الآن: ما المخرج من الوضع الناشئ...؟
هنالك إجماع حول ضرورة الانتقال إلى التطبيق الحقيقي، العملي، الملموس للمادة الثامنة الجديدة من الدستور السوري التي تقول بنظام سياسي حزبي تعددي ... وما خيبة الأمل اليوم من الانتخابات التي جرت إلا تعبير عن عدم الرضا بسبب عدم تحقيق هذه المادة في الواقع. فجهاز الدولة بقي مسيطراً على مجريات العملية الانتخابية، والرقابة القضائية كانت شكلية، وبقيت الأكثرية الساحقة من مقاعد مجلس الشعب ( حوالي 75% ) بيد الحزب الحاكم وحلفائه الرسميين، ومورست أشكال لا تعد ولا تحصى من المخالفات لقانون الانتخاب نفسه، وكانت المخالفات أكبر وأفضح كلما ابتعدنا عن العاصمة أكثر... وكأن شيئاً لم يتغير... وكانت النتيجة من جهة، ازدياد الاستياء الشعبي من مجريات الأمور، واللافت للنظر أن منسوب هذا الاستياء في صفوف من يعتبر نفسه مؤيداً للنظام كان عالياً جداً، ومن جهة أخرى ترسخت القناعة بضرورة البحث عن الحلقة الرئيسية التي على حلها سيتوقف مصير النظام السياسي الجديد الوليد، ومصير العملية السياسية الشاملة بالتالي، وأخيراً المخرج الآمن من الأزمة السورية.
إن الانتقال إلى نظام انتخاب جديد بأسرع وقت ممكن، وإقراره في أولى جلسات مجلس الشعب... إذا لم توافق المحكمة الدستورية العليا على الطعن بصحة انتخابه، يمكن أن تكون هذه الخطوة الأولى التي تفتح الآفاق للإصلاح السياسي الشامل والجذري.
إن نظام انتخاب نسبي شامل سينهي هيمنة جهاز الدولة على انتخابات مجلس الشعب، وينقل هذه الهيمنة إلى الشعب ممثلاً بأحزابه وتيّاراته السياسية الفعلية.
إن هذا النظام الانتخابي الجديد سيخلق تطابقاً بين التمثيل السياسي والوزن الحقيقي، الفعلي للقوى المختلفة في المجتمع السوري.
وكذلك فإنه سيفعّل الحركة السياسية القديمة ويغربلها ويجبرها على التكيف مع الواقع الجديد، كما أنه سينشّط ويفرز القوى السياسية الجديدة.
بالإضافة إلى كل ذلك وبالمحصلة سينهي أزمة الحركة السياسية في البلاد التي طالما كانت بعيدة عن الشارع خلال العقود الأخيرة، ويعيدها إليه، كي يقوم هو باختيار ما يناسبه ويمثل طموحاته وآماله من بينها.
إن التنافس في هذه الحالة سيجري بين برامج ورؤى وأفكار تتسابق لخدمة البلاد وليس بين أسماء وصور ويافطات لا معنى لها، ولا لون ولا رائحة ولا مذاق . مما سيؤدي سريعاً إلى إخراج قوى الفساد  والمال الكبير من حقل المنافسة لأنها غير قادرة مسبقاً أن تقدم  أية برامج تشد المواطن والناخب وتلاقي طموحاته.
إن الموقف من قانون الانتخابات اليوم، هو المعيار الذي من خلاله يمكن تقييم أية شخصية أو قوى أو حزب وجديته في عملية التغيير العميقة التي تهدف إليها المادة الثامنة الجديدة، والتي لا يجوز أن تبقى حبراً على ورق، بل يجب أن تنتقل إلى التنفيذ الفعلي من أجل حماية الوحدة الوطنية وإحباط المؤامرات الغربية والصهيونية وإنزال الهزيمة بقوى الفساد الكبير في الدولة والمجتمع، المستفيد الوحيد من نزيف الدم السوري والمنتج الأساسي للعنف والعنف المضاد.