الحرب على الحرب روسيا والأزمة السورية.. جنيف 1 ـ سوخوي 34 ـ جنيف 3

الحرب على الحرب روسيا والأزمة السورية.. جنيف 1 ـ سوخوي 34 ـ جنيف 3

طال الاستقطاب السياسي الحاد في الأزمة السورية، والتشويش الإعلامي المكمل له، كل جوانب الوضع السوري، بما فيه تقييم الدور الروسي في هذه الأزمة، منذ آذار 2011، وحتى أولى تحليقات «سوخوي».. 

ترى وسائل الإعلام التيت تقف في صف النظام، «الرسمي منها والخاص» في الدور الروسي مجالاً لتأكيد خياراته، ويحاول تقديمه، على أنه مجرد موقف داعم لسورية، بالطريقة التي يريدها النظام، أي أنه أداة للحفاظ على البنية الاقتصادية الاجتماعية والسياسية القائمة كما هي دون تغيير، الأمر الذي انعكس وما زال ينعكس في نشرات الأنباء والتحليلات والبرامج المختلفة، وبخطاب شعبوي غالباً، لم يكن خارج دائرة البؤس الإعلامي المعهود.

إعلام الخندق الآخر، قدم الموقف الروسي ضمن السياق النمطي ذاته، فهو موقف منحاز للنظام، و بالتالي «روسيا عدوه»، و«الروس شركاء في الدم السوري»، وصولاً إلى إطلاق فكرة «الاحتلال الروسي»، وما إلى ذلك مما حفلت به بروباغندا الصراع على السلطة، ومحاولة «شيطنة» المختلفين مع ذلك الخندق من القوى الدولية، والإقليمية والمحلية.

روسيا.. الدبلوماسية والحرب 

ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها روسيا، إلى إعلان «الحرب على  الحرب»، للجم نزاع ما، أو إطفاء بؤر التوتر، حيث تبين وقائع فترة تسعينيات القرن الماضي، بأن روسيا منعت انهيار طاجكستان، وانتزعها من أتون الحرب الأهلية الدموية، ولم تسمح بانزلاق أذربيجان وأرمينيا إلى حرب إبادة عرقية، وطرد الجيش الروسي، القوات الجورجية من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وأعاد السلام إليهما، وصولاً إلى سحب القاعدتين الأمريكيتين من أوزبكستان وقرغيزيا بعد ضغوط من موسكو على قادتهما، وبالتوازي مع هذه الوقائع جميعها– كانت روسيا الاتحادية تقدم المبادرة السياسية تلو الأخرى لإطفاء تلك النزاعات المفتعلة في محيطها الجغرافي. وعندما كانت القوى الأخرى الغربية والمحلية المتواطئة معها تعاند في ذلك، كان خيار القوة حاضراً لدى الدولة الروسية، ونجحت بذلك غالباً.

 كوسوفو 99.. سورية 2015!

قصفت قوات الناتو صربيا، وانتزعت منها كوسوفو عام 1999، واقتحمت القوات الدولية أفغانستان عام 2001 تحت راية الولايات المتحدة، واحتلت العراق في 2003، وتدخل الأوروبيون  في ليبيا تحت قيادة واشنطن عام 2011، وفي ذلك كله كان «القضاء والقدر» الأمريكي «لا راد له»..!

شكل الحضور الروسي الأخير في سورية، عبر المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية، ضد الأذرع الفاشية نقلة نوعية في سياق الحروب التي تنخرط فيها موسكو، والجديد فيها هو أنها تجري لأول مرة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، خارج المحيط الجغرافي السياسي الروسي القريب، وهذا بالذات هو ما لم يكن مسموحاً به أمريكياً على مدى 25 عاماً، أي أن هذا الحضور كسر ذلك الاستفراد الأمريكي بـ«حل» القضايا الدولية.  

جوهر الموقف الروسي.

الضجيج الإعلامي مؤخراً عن الزخم المتجدد للدور الروسي، يضع على طاولة البحث مرة أخرى، قراءة حقيقة هذا الدور بالمعنى العميق، وضمن شرطه التاريخي، ليس من أجل الدفاع عنه أو الهجوم عليه، بل لأن فهماً واقعياً لهذا الدور، يعتبر ضرورة وطنية سورية، في ظل مستوى التدويل الذي وصلت إليه الأزمة السورية، والإصرار الروسي على وضع حد لهذه المأساة، بمختلف الوسائل، بما فيها تفكيك المنظومة الأمريكية المزعومة لمحاربة الإرهاب، أو على الأقل إعادة تركيبها، وفق التوازن الدولي الجديد، بعد أن تأكد أن هذه المنظومة، الموّلدة للإرهاب أصلاً والراعية له، باتت جزءاً من الأزمة، أو على الأقل تعمل على إدارتها وليس حلها كما تزعم، بدلالة تصاعد دور «داعش» وعموم الجماعات الإرهابية على الأرض السورية، رغم مرور عام على أولى الغارات الأمريكية العسكرية المفترضة على مواقع «داعش».

يلاحظ المتابع لتطور مواقف الكرملين منذ بداية الأزمة وحتى الآن، أن ديدن موسكو كان وما زال الحفاظ على الدولة السورية، كوحدة جغرافية سياسية، وكمؤسسات، وردع أية محاولة لتكرار التجربة الأفغانية واليوغسلافية، والعراقية والليبية، ومنع التفرد الأمريكي بالقرار، الأمر الذي استوجب منع تمرير التدخل العسكري المباشر، باستخدام لفيتو المزدوج مراراً وتكراراً،  ورفض التدخل العسكري غير المباشر، والإصرار الدائم على الحل السياسي، وتوفير الأدوات والأقنية التي تفضي إلى مثل هذا الحل، فكان بيان جنيف1، وكان جنيف2، وكانت لقاءات موسكو التشاورية، الأول والثاني والثالث الذي يلوح بالأفق، وكانت الدعوة الروسية إلى التنسيق الإقليمي في مواجهة الإرهاب، وكان التأكيد الروسي الدائم- وبالعربي الفصيح- على ضرورة تزامن ذلك مع إطلاق العملية السياسية السورية على قاعدة جنيف1 مع توفيرالأوضاع المناسبة للسوريين لتقرير مصيرهم، دون أن يفرض أحد عليهم ذلك. 

وبكلام آخر، لم يكن الموقف الروسي بالصيغة التي يطرحها إعلام الطرفين. فإذا كانت روسيا مثلاً: تزود سورية بالسلاح منذ بداية الأزمة كما يكرر الإعلام الغربي، وكل الجوقة التي ترقص على هذه المعزوفة، فإنها -أي روسيا- أيضاً كانت صاحبة المبادرة إلى جنيف1، أي أن هذا الدعم لم يسخر لدعم النظام فقط، بل توازى مع المبادرة إلى تشكيل الإطار الدولي للحل السياسي.

 لعبة المصالح.. والتحليل المتهافت

يكرر «جهابذة» التحليل السياسي- كل من موقعه- الخطاب الممجوج ذاته عن المصالح الروسية، دون أن يفصح أحد منهم عن طبيعة هذه المصالح بشكل دقيق، وكما يبدو دون أن يمتلك هؤلاء الأدوات المعرفية التي تؤهلهم، لفهم طبيعة الصراع الدولي الراهن بشكل حقيقي، وموقع روسيا المعاصرة- بمساحتها الجغرافية ومواردها وتعدادها السكاني والإرث الثقافي- في المعادلات الدولية، ومآلاته المفترضة ضمن الإيقاع المتسارع لحركة التاريخ.

لاشك أن لروسيا مصالح، ومن الطبيعي أيضاً أن روسيا ستضع مصالحها فوق كل الاعتبارات الأخرى، ولكن نقطة الانطلاق الروسية في ذلك هي الجغرافية السياسية على مساحة العالم أجمع، في صراع القوى الدولي وإعادة تشكيل ميزانها الجديد، والذي صادف انفجار الأزمة السورية عند نقطة التحول في ذلك الميزان، أي أن ذلك يتجاوز المقولات المبسطة عن «الطمع الروسي بسورية ومياهها الدافئة» إلى صراع استراتيجي يعد الصراع داخل سورية وعليها جزء منه، ولا يختزله. ولكن السؤال الأهم، في الوقت ذاته، هل تتقاطع المصالح الروسية مع مصالح الشعب السوري، أم تتعارض معها؟ وهل المصالح الروسية تقتصر على التوافق الكلي، إما مع النظام، أو مع المعارضة؟

اختلاف البنية واختلاف المصالح

كي نحدد بدقة المصالح الدولية لروسيا أو للولايات المتحدة أو حتى الصومال، ينبغي الانطلاق، من واقع الدولة المعنية كبنية اقتصادية اجتماعية، والثقافة السائدة، ودور الجغرافيا السياسية، وموقعها في شبكة العلاقات الدولية.

فإذا كانت روسيا، بوصفها الخصم الاستراتيجي اللدود من وجهة نظر واشنطن، من أهم المتضررين من الاستفراد الأمريكي بالقرار العالمي منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، فإن من الطبيعي أن تكون روسيا كدولة صاعدة، من أصحاب الخيارات والمشاريع البديلة عن هذا الاستفراد. وإذا كان المشروع الأمريكي المعلن، هو التفتيت و«الفوضى الخلاقة»، فمن البديهي أن يكون الموقف الروسي قائم على الحفاظ على سيادة الدول ووحدتها، الأمر الذي يترجم، حالياً بالملموس بعد قرابة خمس سنوات على استمرار الأزمة السورية وتحول الإرهاب فيها إلى خطر إقليمي ودولي، بالإصرار الروسي على مكافحة الإرهاب عبر قرارات المؤسسات الدولية المعنية، وليس بشكل منفرد. وإذا كانت الأداة الأمريكية هي ما تسميه الدوائر البحثية الأمريكية، بالقوة الناعمة، أي افتعال أو تأجيج «الصراعات الثانوية البينية»، فإن البديل الروسي هو إطفاء الحرائق، وهذا ما تحاول روسيا تثبيته، وفرضه على واشنطن وأحصنتها الإقليمية، من خلال حركة دبلوماسية ذكية، تنطلق دائماً من ضرورة كسر حلقة ستاتيكوالحرب، والتي جمعت بين الصلابة والواقعية السياسية، و انعكست بسلسلة مبادرات أحرجت قوى الصراع السوري كلها، الداخلية منها والخارجية، وهو ما انعكس بتدحرج المواقف الغربية، والكثير من الإقليمية خلال الأسبوع الفائت، تراجعاً عن الشروط التعجيزية المسبقة في مسألة الانتقال السياسي في البلاد.

بالمختصر يمكن القول: إن جمع مفردات الموقف الروسي وجزئياته، تقود كل من يتحلى بالتفكير المنطقي إلى الاستنتاج: بأنه ليس هناك تقاسم مصالح أمريكي- روسي كما يروج البعض، وليس هناك رغبة روسية للحرب بدل النظام، كما يروّج بعض آخر، بل هناك محاولة للجم منطق الحرب من ألفه إلى يائه، كل ذلك معطوفاً على بيان جنيف1. الأمر الذي يتقاطع مع المصالح العليا للشعب السوري، بغض النظر عن اصطفافاتهم الوهمية الحالية.    

 امتداد أخلاقي للسياسة؟

روسيا التي كانت المبادرة الى التأسيس لحل سياسي للأزمة، وحاولت من أجل ذلك، تأمين توافق دولي وإقليمي وداخلي، تستكمل اليوم مبادرتها عسكرياً، بعد أن تأكد استمرار النفاق الأمريكي، وامتدادته من القوى الإقليمية والمحلية، التي تشتغل على الوقت لاستكمال انهيار ما تبقى من الدولة السورية، روسيا بدخولها العسكري المباشر تحاول أن  تكسر القاعدة التقليدية التي تقول، بأن الحرب هي تجلٍ غير أخلاقي للسياسة، إلى الحرب في خدمة الحل السياسي.