ضجيج «الميدانيات»..!
مع تتالي سقوط المدن والبلدات في الآونة الأخيرة بيد التنظيمات الفاشية الجديدة، بدءاً من محافظة إدلب وصولاً إلى تدمر، ارتفعت حصة «التحليلات» الميدانية في إعلام الأطراف المتشددة في موقعي الصراع، لتصب جميعها في طاحون التشويش على تحضيرات الحل السياسي، التي تتصاعد وتيرتها بنحو موازٍ
وظّفت الأطراف المتشددة مسألة التصعيد الميداني، كعادتها في توظيف أي تطور جديد، في إحباط الناس وتيئيسهم من جدوى الحراك السياسي المتسارع والمتزايد دولياً وإقليمياً وداخلياً لإطلاق الحل السياسي، والذي بدأ مساره بالانتعاش في لقائي موسكو التشاوريين في الأشهر القليلة الماضية، واتضحت مآلاته العامة بالتوجه إلى جنيف الذي قد يكون مكاناً لوضع اللمسات الأخيرة على الصيغة النهائية للحل، والتي يجري التحضير والعمل عليه بتنسيق على مختلف المستويات .
تحليل النخب العاشر
الكثير من محللي النَخْب العاشر، «الاستراتيجيين» و«العسكريين».. في إعلام متشددي الموالاة والمعارضة، يقرأون الأزمة السورية ومآلاتها فقط من زاوية «التقدم- التراجع» للقوى العسكرية على الأرض، بل يتخذون من هذه الزاوية أساساً في تحليل سلوك القوى الكبرى الدولية والإقليمية تجاه الأزمة السورية. ويجعلون بالتالي من العسكرة أساساً للحل السياسي اللاحق، فهذا الأخير لا تحدده سوى «الأوضاع التفاوضية» العسكرية بنظر هؤلاء، وليس موازين القوى الدولية والإقليمية الجديدة، ولا من خلال إفساح المجال أمام السوريين لاحقاً للتعبير عن إرادتهم ومواقفهم عبر عملية سياسية، تفتح بدورها الباب أمام التغير الجذري الشامل السياسي والاقتصادي- الاجتماعي المطلوب.
بين إرادتين
إن فكرة الحل السياسي نشأت بالأساس مستندة إلى التوازن الدولي الجديد، فالتراجع الأمريكي، نتيجة الأزمة الرأسمالية العالمية، بدأ يُترجم فعلياً في الميدانين السياسي والعسكري خلال الأزمة السورية، يوم تمكنت روسيا والصين في مجلس الأمن من التصدي للسيناريو الأمريكي في التدخل الخارجي المباشر في سورية. وهو ما دفع واشنطن وحلفائها إلى التركيز على التدخل العسكري غير المباشر وتوسيع أقنيته وأشكاله. أمام هذا الواقع، أصبح صراع الإرادتين الدوليتين حول سورية ليس مبنياً على أساس «الحسم» أو «الإسقاط»، لأن هذين الهدفين بالحد الأدنى باتا غير ممكنين موضوعياً. بل أصبح شكله: أمريكياً، إدامة الصراع وصولاً إلى هدف «إحراق سورية من الداخل»، والذي يحقق الغرض ذاته الذي يحققه «إسقاط النظام» بالشكل المباشر. أما روسياً وصينياً: الوصول إلى حل سياسي يحافظ على وحدة البلاد وجهاز دولتها.
ومن موازين القوى الدولية تشتق الموازين الإقليمية، فبالرغم من ارتفاع الأوزان الإقليمية المؤقت، بسبب احتدام القطبين الدوليين حول العديد من ملفات المنطقة وعلى رأسها سورية في السنوات الماضية، إلا أن هذه الظاهرة إضافة إلى سلوك القوى الإقليمية تستند في نهاية المطاف إلى التوازن الدولي ذاته. أكبر مثال على ذلك سعي واشنطن مؤخراً إلى لملمة حلفائها باتجاه التحضير لتسوية الملف السوري التي تجري بالتنسيق مع الروس، وغيره من الملفات الدولية، تحت ضغط تراجعها والأقطاب الدولية الأخرى.
التجليات الميدانية .. عمَ تعبر؟َ!
في المرتبة الثالثة تأتي الوقائع الميدانية، فهي بشكلها الجاري تعبر في آخر الأمر عن الموازين الدولية أولاً، والإقليمية تالياً؛ فمن جهة فإن «التقدم- التراجع» العسكري كان يجري بنحو شبه متناوب بين الأطراف العسكرية على الأرض على مدى السنوات الماضية، وهذا الأمر يعكس بدوره حقيقة أن لا «الحسم» ولا «الإسقاط» يمكن أن يحلا الأزمة السورية، وأن المحدد في هذه المسألة ليس عتاد القوى العسكرية المختلفة وعديدها فقط، بل ميزان القوى الدولي بالدرجة الأساسية. ومن جهة ثانية، فإن إطالة أمد الصراع العسكري، يمثل إرادة واشنطن في سيناريو «الإحراق من الداخل»، ومن أجل ذلك هي تشتغل بين الحين والآخر إلى النفخ في «التصعيد الميداني» إعلامياً وسياسياً وعسكرياً، من خلال إعلاناتها المتواترة هي وحلفائها عن «تسليح» و«تدريب» وتقديم «مساعدات عسكرية».. الخ. ليس فقط من أجل تحقيق تحقيق انتصارات جزئية عسكرياً هنا وهناك، بل أيضاً من أجل استفزاز الطرف المقابل ودفعه باتجاه المواقف المتشددة التي تلبي هدفها في نهاية المطاف.
إن وقائع الميدان مثلما تعكس «تقدماً» و«تراجعاً» بالمعنى العسكري، فهي تعكس بوجهها الآخر مأساة وكارثة انسانية يعيشها السوريون جراء استمرار العسكرة، الأمر الذي يفرض ضرورة إسراع كل الوطنيين والشرفاء وفي كل الأطراف باتجاه الحل السياسي، أما استمرار خوض الصراع العسكري مع تفاقم تلك الكارثة بات يتحول إلى ورقة خاسرة بيد لاعبيه الأساسيين، فالمرحلة التي تبدأ فيها العملية السياسية هي مختلفة نوعياً في تقييم دور العسكرة والضرائب الباهظة التي فرضتها على السوريين.