«هوس الجزئيات».. إنكار من نوع آخر!
ترسم نشرات الأخبار اللوحة بأدق تفاصيلها: مقاتل يظهر في كادر الصورة، يختلف انتماؤه حسب سياسة الوسيلة الإعلامية، يظهر تحت سلاحه مديراً ظهره للكاميرا ومتمترساً مستعداً لاستكمال المعركة وللانتصار.
مسؤول ما، حكومي أو معارض أو دولي، يجوب الشوارع في مكان ما، ويلتقي «الرعية» ليمن عليها بالاستماع لمشكلاتها أو بتوزيع بعض المساعدات، ... وثيقة سرّية تكشفها صحيفة عالمية وتتناقل وسائل الإعلام تفاصيلها ودهاليزها لتثبت استناداً لها وجهات نظر متعارضة ومتناقضة كل التعارض.
قذيفة هاون تعبر الشباك الشرقي لبيت أبي مراد الذي كان في زيارة عائلية لابن عمه وتمر الأمور بسلام، وربما لا تمر، ولكن المهم أنّ قذيفة هاون سقطت أو أن أحد المتقاتلين سيطر على حارة وأربعة منازل إضافية، ولم يبق عليه سوى مائة وخمسين ألف حارة أخرى في طريقه إلى «نصر شامل»..!! والخ والخ.
«مسلسل الأخبار»!
يتلقى السوريون يومياً، ومع كل نشرة أخبار، وعلى أية وسيلة من الوسائل الإعلامية، سيلاً عارماً من التفاصيل والجزئيات التي تزعم أنّ تجميعها يقدم الصورة الكاملة والحقيقية لما يجري.. رغم ذلك فإنّ المحصلة النهائية أنّ الناس إذ تتابع نشرات الأخبار لتفهم منها شيئاً ما، فإنها تعود لتتابعها مرة بعد مرة ودون أن تصل إلى شيء مهم، وذلك لسبب أساسي هو أنّ هذه النشرات جميعها تقدم مسلسلاً لا نهاية له، بل ولا يمكن التنبؤ باتجاهه العام ولا حتى بأي من تفاصيله. والمحصلة أنّ كم التفاصيل الهائل الذي يتم إغراق الناس فيه، لا يفعل سوى أنّه يحجب بشكل مقصود ومتعمد الحقائق الكبرى.
في مثال الأزمة السورية، استحق ائتلاف الدوحة وقبله مجلس اسطنبول أن يتم تشخيصهم على أنهم مرضى بالإنكار، وهو مرض نفسي ينتج عن عدم قدرة المريض على التكيف والتفاعل مع تغيرات كبرى في واقعه ما يدفعه إلى إنكار تلك التغيرات كلها والتصرف وكأنها لم تكن..
الحقيقة أنّ مرض الانكار هذا لا يقتصر على المجلس والائتلاف، بل يتعداه إلى المتشددين في الطرف المقابل، وإلى دول إقليمية كبرى تعيش مراحل تراجع عاصف تعجز عن التكيف معه.
«بكسلة»!
يعبّر تركيز الإعلام على التفاصيل الميدانية، دون السياسية العامة، عن إصابة محققة بمرض الإنكار. فحين تكون عاجزاً عن الاعتراف بالتغير الكبير الحاصل في الوقائع الكبرى وعلى رأسها تهتك العسكرة وضعف قدرتها على التأثير في مجرى الأمور العام، مع معرفتك بأنّ أيّ حل سياسي سيكون ضد مصالحك فإنّ الطبيعي هو أن تحاول إنكار كل الوقائع الكبرى لمصلحة التفاصيل الجزئية.
لدى المصورين والعاملين في مجال الغرافيك مصطلح أصله إنكليزي يتعلق بدقة الصورة. حين تكون الصورة قليلة الدقة يقولون عنها أنها «بكسلت» حين يتم تكبير جزء منها، أي تظهر فيها مربعات الألوان «البكسلات» المنفصلة. كذلك الأمر في العلاقة بين الجزئيات والعام. لأنّ الحقيقة الأهم هي أنّ جمع التفاصيل الجزئية ذاتها لا يسمح برؤية اللوحة العامة، بل ويساهم في تشويشها! فالعام هو ذلك المتضمن والمتواري ضمن التفاصيل كلّها، واستخراجه لا يتم بالجمع وحده، بل بالجمع والتجريد العلمي، وهذا الأخير هو ما يبتعد عنه الإعلام عموماً، وإن هو قاربه فإنما يقاربه بطريقة معكوسة تماماً، أي أنّه ينطلق من الاستنتاج المسبق نحو التفاصيل.. فالذي يقول بـ«الحسم» ينتقي من التفاصيل ما يخدمه ويعرضها بوصفها أدلة على صدق تحليله، وصاحب «الإسقاط» يفعل الشيء نفسه.
الحقيقة تتسرب رغم كل شيء
رغم ذلك فإنّ الناس إذ يتابعون التفاصيل المجتزأة والمنتقاة على الوسائل الإعلامية المختلفة، فإنّ الحقائق الكبرى تتسرب إلى وعيهم شيئاً فشيئاً وبشكل تراكمي. ويظهر تنامي هذه الحقائق الكبرى في رؤوسهم في بداياته على شكل تململ من وسائل الإعلام المختلفة لا يلبث أن يتحول مع الوقت إلى نقد مستمر، وإلى انتقاد وتفكير مستقل أكثر فأكثر بكل خبر وبكل كلمة وصورة وتعليق تنشره وسائل الإعلام.
إنّ استطالة الأزمات واستخدام الإعلام فيها استخداماً دؤوباً مكثفاً، ورغم ما خلفته من مآسٍ كبرى، فإنها تعد بنقلات تقدمية كبرى على مستوى وعي الناس وفهمهم لمصالحهم، نقلات كبرى ستسمح بتوحيد صفوف المقهورين وتوحيد طاقاتهم باتجاه سحق العالم القديم وبناء عالم جديد.
