الطائفية تتدثر عباءة القومية
في التاريخ صفحات ووقائع، يفصلنا عن زمانها قرابة قرن ونيِّف يومها دق القوميون أجراس خطر الطائفية، فقد رفض مفكرون وساسة عرب دعوات ذات طبيعة طائفية، نادى أصحابها أن سقف القضية القومية العربية، في ظروف سيطرة الدولة العثمانية واستبداها، هو بالحكم الذاتي للولايات العربية، دون الانفصال عن الدولة العثمانية، وزعموا أن الدولة العثمانية تتألف من قوميتين، وكان ذلك لفرملة النضال الوطني القومي التحرري.
قبل بدايات القرن العشرين وأوائله، أخذ النضال ضد الاستبداد العثماني سبل الجمع بين القومية العربية والدين، وبرز في هذا الاتجاه «حزب اللامركزية» الذي دعا إلى قيام أقاليم عربية تتمتع بالاستقلال الذاتي، في نطاق الدولة العثمانية، كان ذلك في ظرف محدد خطوة لإبراز الهوية العربية، إلا أن تلك الهوية ظلت أسيرة الهوية الطائفية، ولم تأخذ حق الشعوب العربية بالاستقلال الكامل عن السيطرة العثمانية، إن تحويل الدين إلى مسألة هوية، وإنزاله إلى السياسة محدداً طبيعة العلاقات بين المجموعات السكانية يتحول واقعياً إلى طائفية، لا تخدم مصالح الشعوب وتدفع الدين بعيداً عن جوهره وأهدافه.
لقد تصاعد اضطهاد المجموعات والعناصر القومية العربية واشتدت الشوفينية والتعصب التركي، حتى أدى إلى رفض فكرة أن الدولة العثمانية تتألف من قومتين هما التركية والعربية، وهكذا أتى التعصب والشوفينية القومية التركية على الجدار الطائفي الذي اتخذ لمئات السنين أداة لاضطهاد الشعوب وإنكار هويتها القومية ومحاربة لغتها وثقافتها، ودفع من جهة أخرى، المثقفين والسياسيين العرب، إلى حسم الأمر وإنهاء ازدواجية الهوية والإقرار بالهوية القومية والوطنية، وتصاعد النضال من أجل دولة عربية في بلاد الشام والحجاز، لكن الاستعمار الكولونيالي الإنكليزي الفرنسي حال دون ذلك. وانتهى الأمر إلى معاهدة «سايكيس بيكو» و«وعد بلفور» وفي تلك السنوات غرق المسؤولون العرب بموضوعة «نحن مع من» مع الأتراك أم مع الحلفاء، واليوم تطرح الطائفية في مشاريعها الإقليمية التساؤل نفسه «العرب مع من»؟.
السعودية وقطر..والهوية الطائفية
سقنا ذلك كمثال تاريخي ينبه إلى خطر الأخذ بازدواج الهوية، وجعل القومية تتدثر عباءة الطائفية، وقد برز في مؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ، أن قطر والسعودية أرادتا أن يأخذ التحالف عمقاً طائفياً، بحيث يضم دولاً غير عربية، ورغم أنهما لم تستطيعا فرض ذلك إلا أنهما نجحتا في أن تتدثر الطائفية الرسمية عباءة «القومية الرسمية» وقد ظهر ذلك في الموقفين الباكستاني والتركي ولم يكن في مستواهما، المواقف المعلنة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا وفرنسا.
إن إعطاء الوضع في اليمن والخليج بعداً طائفياً، يشكل الخطر الأكبر على شعوب المنطقة، ومهما كانت الحجج، فإن تأجيج الطائفية هو أخطر ما يهدد مصالح الشعوب واستقلال دولها، ويفشل النضال لبناء دولة وطنية ديمقراطية. إنه خطر واسع النطاق ولا يمكن التحكم به من قبل دول المنطقة، ويدفع الدول باتجاه التدخل الأمريكي الأوربي مضافاً إليهما التدخل الصهيوني الذي يجد فرصته الذهبية في تكوين ««إسرائيل» الكبرى والعظمى».
خواء الفكر القومي الرسمي
لقد تطور الفكر القومي العربي في النصف الثاني من القرن الماضي، وتصدى للإقطاعين والكمبرادور والبرجوازية الكبرى والطائفية وقواها السياسية، وكان الملوك والأمراء قوة أساسية في مواجهة ذلك، ولم تكن المصالح القومية شأنهم، وتحول نفطهم إلى نيران في أوصال البلدان العربية المناهضة للاستعمار، والرامية إلى التطور والتحرر، ومن نافلة القول أن النظم الملكية والأمراء، يرفضون التحول إلى ممالك دستورية، وهم ضد بناء دول ديمقراطية ويرغبون بوضع المسألة على نطاق يؤجج الطائفية والشوفينية القومية.
إن الشعوب العربية قادرة على معرفة مصالحها وبناء دول وطنية ديمقراطية، وليس من مصلحة الشعوب أن تكون وقوداً ودماراً للطائفية، سواء أكانت معتدلة أو مستترة أو مفضوحة.
إن مؤتمر القمة لم يلامس أهمية الاستقلال، باعتباره خطوة لتحقيق مصالح الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم أنه لم يضعف عوامل التخلف والإرهاب. كما أنه لم يضع يده على حقيقة غاية في الوضوح، وهي أن ما يصيب الدول العربية من تآكل اجتماعي داخلي، يفتح الباب كاملاً لكل القوى الخارجية، ولم تضع مؤتمرات القمة السابقة أية مؤشرات تدل أن الملوك والأمراء والرؤساء معنين بأن مخاطر تحيق بالقضايا القومية والوطنية خاصة في ظروفنا الراهنة، حيث تركيا دولة إقليمية تستخدم الطائفية لإضعاف الداخل في كل دولة عربية، وأصبح ذلك خاصية من خصائص الدولة الإقليمية. ويلازم ذلك وضع العرب في خيارات جديدة ليحدد «مع من العرب» رغم أن نضال الشعوب العربية يؤكد أنها مع استقلال بلدانها، وتطورها وتقدمها وتحررها. وأن تاريخها علمها أن تضع المسألة على نحو آخر، ألا وهو من مع حقوق الشعب الفلسطيني، وتحرير الأرض، ومواجهة الخطط الامبريالية، وتعلمت الشعوب رغم الركام الراهن، أن أي مصدر يعتمد نشر الطائفية وإغراق الشعوب بذلك لن يكون نظيفاً، وينتهي به الأمر إلى عداء الشعوب ومصالحها بصورة سافرة، كنا ومازلنا في وضع يطرح التمايز بين قومية الشعوب، وقومية الملوك والأمراء والرؤساء، بين قومية تشد إزر نضال الشعوب وتطورها وتقدمها، وقومية تنخرها الطائفية وتحقق مزيداً من التخلف، وتؤسس لموجات إرهابية جديدة، ناهيك أن «الطائفية المعتدلة» تتضمن احتمال تحولها اجتماعياً إلى متطرفة.
الغرب الاستعماري والطموح القومي التحرري
سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تأييد التحالف العربي بزعامة السعودية، وقد قامت الولايات المتحدة بتشكيلة من المواقف فبل تفاقم الوضع في اليمن، وحقيقةً إنها اعتمدت خطة توريط كافة الأطراف كي يتفاقم الوضع، ويندفع نحو الحرب الإقليمية، ومثل هذا الأسلوب استخدمته مع صدام حسين، فهي لا علاقة لها وذلك شأنكم. إن الدول الاستعمارية المعروفة تريد تحالفاً عربياً يخدم خططها، وهو ما عبر عنه وزير الدفاع الأمريكي، عندما بين أنه يدعم التحالف، عندما لا تتعارض أموره مع المصالح الأمريكية، ويمكن القول أن كل حرف أو نشاط طائفي، خدم في النهاية الاستراتيجية الأمريكية، وقد ارتاحت أكثر عندما شعرت بتنامي الاستقطاب الطائفي، في مواقف وسياسات الدول. وطبيعي أن ذلك التصريح أراد أن يحدد بوضوح، أن أي تحالف رسمي عربي لن يكون ضد «إسرائيل»، فذلك يتعارض مع المصالح الأمريكية.
إن الولايات المتحدة مع «الطائفية المعتدلة» على طول الخط، ومع التطرف إذا تطابق مع استراتيجياتها وأهدافها، وهي دعمت وتدعم كل عامل توتر داخل أي دولة، وهي تدري أن الطائفية أداة لتدمير المجتمعات والدول، والأهم أن الولايات المتحدة أصبحت تستند إلى مزيد من التناقضات بين الدول العربية وإيران، وتروج لكل تصريح طائفي يخدمها.
إن الحقيقة التاريخية المعروفة، هي أن الدول الاستعمارية كافة تعادي بشدة، الفكر والسياسات القومية التحررية، وتعادي كل فكر يهتم بحقوق الشعوب.
وفي نفس الوقت، تشجع بأساليب مباشرة وغير مباشرة مختلف القوى، الطائفية المعتدلة والشوفينية، لأنهما تعززان فرص الحرب بين شعوب المنطقة، وقد انتهجت الأوساط الصهيونية والاستعمارية كل السبل، وابتكرت الدعايات القذرة مع تعاظم النضال ضد الصهيونية ومن أجل حقوق الشعب الفلسطيني. ويتمركز جهد سياسي وعسكري إمبريالي لإدخال مفهوم أن مشكلات المنطقة مرتبطة بالإيديولوجيات فيها، لكنها تتجاهل أن سياساتها الاستعمارية المعادية لتطور الشعوب وتقدمها وأيديولوجيتها وفكرها السياسي، شكلت العامل الأهم لتكوين المناخ لانتشار تلك الايديولوجيات المتطرفة، كما سعت دائماً لإفشال الدولة الوطنية وأسهمت في دعم القوى المعادية للديمقراطية.