في أي السياقات تجري معارك القنيطرة؟
تصاعدت هجمات مسلحين من »جبهة النصرة« و»الجبهة الإسلامية« وغيرهما من الفصائل في جنوب سورية، منذ حادثة اختطاف الجنود الدوليين من معبر القنيطرة، والاستيلاء عليه أواخر الشهر الماضي.
ومنذ ذلك الوقت، والمسلحون يجتاحون القنيطرة قرية وراء قرية مدعومين بمدفعية الكيان الصهيوني، وقد وصلت الأمور مؤخراً حد مطالبة مجموعات من المسلحين بقيام منطقة حظر جوي في الجولان والقنيطرة..! فما هي جدية هذا الحديث؟ وما هي آفاق التدخل الصهيوني المباشر في الوضع السوري؟ وفي أي السياقات يجري؟
إنّ البحث عن إجابات جدّية للأسئلة السابقة، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار اللوحة العامة للأزمة السورية خلال الأشهر الماضية، وقبل ذلك اللوحة العامة للصراع الدولي الجاري، ومن ثم خصوصية القنيطرة التي ترتبط مباشرة بالصراع مع العدو الصهيوني.. وعليه، فإنّ الخطوط الأساسية التي ينبغي مراعاتها يمكن تكثيفها في التالي:
محدودية «الإبداع الرأسمالي»!
أولاً، يوضح السلوك الأمريكي في أوكرانيا وفي منطقتنا، وفي مختلف ساحات الصراع، أنّ واشنطن لم ترضخ لواقع تراجعها الاقتصادي والسياسي بعد، وما تزال تحاول استخدام قوتها العسكرية وعطالة قوتها السياسية لوقف انحدارها الاقتصادي. ووفقاً لذلك فهي تعتمد سياسة الحريق العالمي وتوسيعه وتعميقه باستمرار، على مبدأ »الفوضى الخلاقة«.. أي أنّ الحل الكلاسيكي للأزمات الرأسمالية العميقة (الحروب وتوسيع رقعة الحروب) لا يزال الحل الوحيد الذي تمتلكه الرأسمالية، حتى وإن غيرت في شكله وطورته ليتحول من الحرب المباشرة إلى الحرب بالوساطة..
ثانياً، إذا كانت الجولة السابقة من الحلول السياسية، (جنيف الإيراني والسوري)، وإن لم تستطع حل هذه الأزمات، قد أضافت نقاطاً جديدة في تثبيت التوازن الدولي الجديد وترجمته سياسياً، فإنّ جولةً تالية تنذر بمزيد من الوضوح في الترجمة، ما يدفع واشنطن إلى القتال بكافة الوسائل وعلى جميع الجبهات لإبعاد شبح الحل السياسي المثبت لتقهقرها..
ما بعد جنيف..
ثالثاً، إذا كان التراجع السياسي الذي أحدثه جنيف في الصف الأمريكي، بمجرد فتحه لأفق الحل السياسي، قد انعكس في الأشهر التي تلته تقدمات عسكرية للجيش السوري، وتهلهلاً لحكومة كييف في فترة تلي ذلك بقليل، فإنّ امتداد الزمن وانطفاء جذوة جنيف مؤقتاً، سمحت لصف الحرب الأمريكي بترتيب أوراقه مجدداً لإعادة الهجوم، على كامل الخريطة السورية، ابتداءً من حقل الشاعر وصولاً إلى القنيطرة.. من الجنوب إلى الوسط إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، وذلك خلال الشهرين الماضيين فقط..
رابعاً، إذا كان التراجع الأمريكي المقرون بالحلول السياسية، قد حاد عن واجهة الأحداث مؤقتاً، من خلال عودة سعير الحرب إلى الاشتعال، فإنّ الأهم أمريكياً، هو اختراع »داعش« باعتبارها الأداة الأهم للمرحلة الراهنة واللاحقة. وبكلام آخر فإنّ إفشال جنيف-2 هو بالذات الذي فتح الباب إمام إمكانية تكريس «داعش» وتوسيعها وتضخيمها بالشكل الذي جرى فيه.
خامساً، إذا كانت داعش قد تحركت بهذه الدرجة من التنظيم، فليست وحدها من فعل ذلك، فتحرك المسلحين في سورية بفصائلهم المختلفة في التوقيت نفسه جاء في السياق نفسه، بين من تلقى أمر العمليات بشكل مباشر، وبين من رأى في الحركة العامة أملاً جديداً بإحياء مقولة إسقاط النظام بقوة السلاح..
بين الهدنة والمصالحة
سادساً، في السياق نفسه، برز مؤخراً تدهور العديد من التسويات التي جرى إعدادها كيفما اتفق في المرحلة السابقة، فرغم إيجابية التسويات تلك، إلّا أنها جرت بعقلية الحرب وبعقلية الحسم، أي أنها لم تكن إلاّ هدنات مؤقتة، فالهدنة هي ما يجري ما دامت الحرب مستمرة، والمصالحة لها زمان ووضع آخر هو وضع الحل السياسي وعودة الحياة إلى طبيعتها بكل ما تعنيه العبارة من مضامين ومدلولات. إنّ انفراط عقد جملة من التسويات في المرحلة الأخيرة زاد الأمور تعقيداً، وكرّس حالة الاستنزاف القائمة وعمّقها..
سابعاً، ضمن سياق الهجوم المضاد العام جاء احتلال معبر القنيطرة، والانطلاق منه بمساعدة الصهاينة للسيطرة على معظم أنحاء المحافظة، ولكنّه جاء أيضاً في سياق الرد الصهيوني على الهزيمة التي تلقاها في غزة، فقد اعتدنا من الصهيوني ونتيجة هشاشة كيانه، عدم تحمل أية خسارة لفترة طويلة من الزمن، وكان واضحاً لأي متابع لتطورات لقضية الفلسطينية أنّ الرد آت، وقد أتى في سورية هذه المرة..
ثامناً، إنّ الحديث الرائج عن منطقة حظر جوي يفرضها الكيان، تبدو بمثابة تغييب للهدف الأبعد المطلوب، فمنطقة كهذه تعني حرباً مباشرة، الأمر الذي تحاشته »إسرائيل« ولا تزال، لكونه عاملاً إيجابياً، فيما لو جرى، يساعد في تكريس الفرز الوطني في سورية بعيداً عن الانقسامات ذات الطابع الطائفي والقومي، هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى فإنه يحمل مخاطر تحول الحرب من شكلها الأكثر ملاءمة للأمريكي أي شكلها الاستنزافي الداخلي، إلى حرب تقليدية لن يضمن الأمريكي نتائجها حتى وإن شجع على قيامها..
فوضى وأوضاع استثنائية
تاسعاً، للسبب السابق فإنّ الدخول الصهيوني على خط الأحداث بهذا الشكل يصب في خانة الرد على غزة من جهة، وفي خانة الاستنزاف وتصعيده من جهة أخرى، وذلك عبر زيادة عدد ومساحة »الأوضاع الاستثنائية« على الأرض السورية، مما يزيد مستوى التعقيد، ويزيد صعوبة الحلول السياسية فيدخل وقائع الميدان فيها كفتائل تفجير متجددة وذاتية..
بالمحصلة فإنّ العمل الحقيقي على حل الأزمة السورية، وعلى إنقاذ سورية، كان ولا يزال عملاً مقروناً بعداء صلب لواشنطن وللصهيونية وللفساد الكبير الداخلي، أي أنه كان ولا يزال بحثاً عن الحل السياسي الحقيقي الذي يضمن تغييرات حقيقية اقتصادية- اجتماعية أساساً، بعيداً عن أوهام الحسم والإسقاط.. فكلما انفتح أفق الحل السياسي كلما ضاقت خيارات واشنطن وقلّت حيلتها، والعكس بالعكس..
الحقيقة الملونة
بالمحصلة، فإنّ الحقيقة كانت ولا تزال ملونة شديدة التعقيد، فلا «بياض» النظام المفترض بياض، ولا سواده كذلك.. فالأرضية التي خلقها الفساد والنهب والاستقواء على الناس هي بالذات ما سهل مرور العدو الخارجي بالشكل الخطير الذي نراه اليوم.. فـ«حصان طروادة» كان ولا يزال متمثلاً بالفساد الكبير داخل جهاز الدولة وخارجه.. أولئك الذين ينبغي توجيه الحراب صوبهم مباشرة، بعيداً عن تعويم مسألة الفساد باعتبارها «أزمة أخلاقية»!!، فالأزمة الأخلاقية موجودة حقاً لأن أخلاق هؤلاء الفاسدين هي السائدة بحكم وزنهم الاقتصادي وتأثيرهم الاجتماعي، بالتالي.
وبالمحصلة فإن الفاسدين، شأنهم شان الأمريكيين، هم أهم وأكبر المعادين للحل السياسي في سورية، لأنهم يدركون تناقض مصالحهم مع المصالح الجذرية والعميقة للشعب السوري، ولأنهم يعرفون كل المعرفة رأي الشعب السوري بهم.