الإرهاب.. «يحارب» الإرهاب!
الأزمة السورية وصلت إلى ذلك المكان الذي لم يعد يتجرأ أحد فيه أن يخرج من دائرة البحث عن «الحلول»، بعد أن بلغت هذه الأزمة ذروتها وبعد أن استنفدت القوى نفسها، فبدأت حتى كثير من تلك القوى المسببة للأزمة بالحديث عن «الحل»، ولكن ليس لكسر الحلقة المفرغة للأزمة بل للاستمرار فيما بدأت به، من بوابة الحل نفسه هذه المرة، أي للتحكم بالحل، وذلك بغض النظر عن طبيعة «الحل» الذي يرتئيه هذا الطرف أو ذاك..
فرض تورّم الظاهرة الداعشية وما رافقها من بروباغندا في الأشهر الأخيرة واقعاً جديداً على عموم المشهد الإقليمي، وضمناً المشهد السوري، واستدعى استنفاراً دولياً واقليمياً. وبغض النظر عمن أوجد الظاهرة، ومن فعَّلها، و في خدمة من تعمل، ومن استطاع توظيفها والاستثمار فيها، بغض النظر عن كل ذلك، كانت هذه الظاهرة بوابة لنقلة نوعية في طريقة التعاطي مع الأزمة السورية، حيث دخلت واشنطن في ساحة «المواجهة» المباشرة مع داعش بحكم «التفويض الرباني» لها بحماية قيم «العالم الحر»..! وطالما أنها تعمل من أجل هذا الهدف «النبيل» فلا تهم لا سيادة الدول والبلدان، ولا كيفيات المواجهة الحقيقية، ولا ما ستفضي إليه مثل هذه المواجهة من تعقيد جديد للأزمة.
في هذا السياق التبريري للتدخل الامريكي أيضاً يمكن للمتابع أن يستنتج سبب كل ذلك التهويل الإعلامي الذي رافق تمدد الظاهرة الداعشية مؤخراً، ويمكن أن يفهم تكرار عرض مشاهد قطع الرؤوس والذبح، وإشاعة الرعب من هذا «البعبع» الذي يستوجب وجود منقذ ما، وطبعا ليس هناك أحد سوى «اليانكي»!؟
الحل الأمريكي هو تلك الضربة الاستباقية التي تعزز وجود واشنطن ودورها كي لا تخرج خيوط اللعبة الإقليمية من يدها في مرحلة تصاعد دور قوى إقليمية ودولية مرشحة لامتلاك القدرة على فرض حلول حقيقية لأزمات المنطقة، مما يعني رفع البطاقة الحمراء في وجه اللاعب الأمريكي المشاغب وطرده من الملعب بعد أن استطاع أن يعبث ويناور ويتسلل مستفيداً من هشاشة البنى القائمة وقابليتها للاختراق.
واشنطن ما زالت تجاهر بأنها بذلك تدافع عن مصالحها وأمنها القومي. وباعتبار أن هذا الأمن استند وبشكل علني إلى إعادة صياغة خريطة المنطقة، فإن دخول واشنطن المباشر على خط الأزمة السورية من بوابة مكافحة الإرهاب، لايعني إلا الفوضى وتعقيداً جديداً للأزمة..
ما بعد داعش؟
رأس الدبلوماسية الأمريكي جون كيري صرح قبل أيام أن محاربة الإرهاب لاتقتصر على مجابهة داعش فقط، فماذا يريد أن يقول كيري هنا؟
منذ إعلان الحرب المزعومة على الإرهاب بعد أحداث أيلول، تبين أنها حرب مفتوحة، مكانياً وزمانياً، وتمتد إلى حيث تتطلب المصالح الامريكية، الأمر الذي يعني إمكانية إدراج أي جهة أو نظام أو حركة على «القائمة السوداء»، وبالتالي تبرير العمل العسكري ضد أي طرف، وعليه فإن أي تعويل بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية في الحرب على الإرهاب هي أضغاث أحلام تفندها الوقائع الملموسة على الأرض، بحكم نتائج التجربة الملموسة لواشنطن فيما يسمى بمحاربة الإرهاب.
واشنطن تقول:
قد يبدو في الأمر مفارقة عندما نقول إن واشنطن ما زالت تعمل على تقوية «داعش»، وهي التي قصفت مواقعها في العراق حتى الآن بـ167 ضربة جوية، حسبما ورد في وسائل الإعلام. لكن وفي سياق آخر الوقائع نفسها تقول- حسب تصريحات جيمس كومي- رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) أمام لجنة الأمن القومي في مجلس النواب ان وزن داعش يزداد..! يقول كومي إن «استخدام تنظيم الدولة الاسلامية الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي ازداد، كما ازداد الدعم على الانترنت عقب إعلان شن ضربات جوية اميركية في العراق».
وصرح ماثيو أولسين مدير المركز القومي لمكافحة الإرهاب أن عدد المقاتلين الإسلاميين في سورية والعراق أصبح الآن يتراوح بين 20 و31 ألف مقاتل. وأضاف أن تنظيم «الدولة الإسلامية» لديه «وسائل دعاية متطورة للغاية يتفوق فيها على الجماعات المسلحة الأخرى»، موضحاً أن تلك الدعاية « لها تاثير على المجندين». وقال كومي إنه بعد قتل رهينتين أمريكيتين وآخر بريطاني بقطع رؤوسهم فإن تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيره من المنظمات الإرهابية الأجنبية قد يواصلون محاولة القبض على رهائن أمريكيين لمحاولة إجبار الحكومة والشعب الأمريكيين على تقديم تنازلات تعزز من قوة التنظيم وتزيد من عملياته الإرهابية» ولعل السؤال البسيط الذي يطرح نفسه هنا، طالما أن وزن داعش سيزداد بالحرب عليها بالطريقة الأمريكية، فلماذا هذه الحرب أصلاً؟ ومن أين يأتي هذا التزايد في وزن داعش؟
الوكيل.. و آمر العمليات؟
تشير العديد من التقارير الإعلامية إلى النشاط العلني الذي يمارسة الدواعش قي تركيا، فيما تؤكد وقائع سابقة ومنها اقتحام رأس العين في الشمال السوري تلك التسهيلات التي قدمتها الحكومة التركية، بينما تؤكد هذا الدور الأحداث الجارية في «كوباني» بمنطقة عين العرب في محافظة حلب، ومحاولة داعش اقتحامها بعد تحشيد قوى هائلة على تخوم المنطقة، بمساهمة مباشرة من الدبابات التركية التي تدخلت للسيطرة على جسر «قره قوزات»، كما صرح أحد قياديي حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يعتبر الإطار السياسي الذي يقف خلف وحدات الحماية الشعبية. وفي السياق ذاته قال صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي: «إن أحداً من الدول الغربية، ممن يوزع السلاح على البشمركة في كردستان، لم يقدم لنا بندقية واحدة، كما أن أحداً من التحالف المفترض لم يتصل بنا، ولم ينسق معنا» مما يؤكد مرة أخرى على النفاق الغربي، وتعدد المعايير لديه فيما يسمى بمحاربة الإرهاب.
ربما يبدو أن الدولة التركية تقوم بعمل مستقل خارج السياسة الأمريكية المعلنة في قتال داعش!؟
إن الأمر الذي لايمكن نفيه هنا هو أن لتركيا مصالح خاصة، ولاسيما بعد ازدياد دور المراكز الإقليمية في ظل التوازن بين القوى الدولية الكبرى، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه مجدداً، هل السلوك التركي يندرج خارج الاستراتيجية الأمريكية بإثارة الفوضى، ومن يستطيع أن ينفي عملية تبادل الأدوار بين «المركز» الدولي الأمريكي و«الطرف» الإقليمي التركي، استناداً إلى مستوى العلاقة التاريخية الاقتصادية والعسكرية والأمنية بين البلدين. فـ«البريستيج» الديمقراطي الأمريكي يتطلب أن تقدم واشنطن نفسها بأنها الخصم الأول لداعش، وأن تبقى في مكان يسمح لها باحتواء كل الأطراف الأخرى، وبالأخص المتضررة مباشرة من هذه التنظيمات الإرهابية ضمن محاولات إحتواء الكل المنهك.
فرضيات بائسة؟!
أحد الآراء التي يتم الترويج لها مؤخراً في سياق بروباغندا الحرب على الإرهاب تقر بأن داعش بالأصل صناعة أمريكية، ولكنها خرجت عن طاعتها وفقدت واشنطن إمكانية التحكم بها، وبالتالي فإن الانعطافة الأمريكية ضد هذا التنظيم هو أمر واقعي موضوعي، ينبغي الاستفادة منه في الحرب على الإرهاب.. كذا!؟
وعلى أساس هذا الاستنتاج تحاول بعض القوى الإقليمية الانخراط مع واشنطن في الحرب المزعومة على داعش آملة بذلك الحصول على شيء من الكعكة بعد «حسم المعركة».. مشكلة مثل هذه الفرضية أنها تنظر الى المسألة من وجهة نظر ضيقة تتعلق بقومية أو دين ما، وتحسن الظن بالنوايا الأمريكية، وتتجاهل أن الفوضى القائمة بغض النظر عن علاقة واشنطن المباشرة بداعش هي جزء من المشروع الأمريكي، وأنه في ظل الفوضى لا يمكن أن يحصل أحد على شيء من حقوقه، في ظل تشابك الملفات الإقليمية، وفي ظل الصراع الدولي الجديد، لابل أن بعض الأقليات الدينية أو القومية «بالمعنى العددي» ربما تصبح كبش فداء في محرقة الفوضى. وعليه فإن الأصل في مواجهة التكفير والإرهاب يكمن في مواجهة المشروع الأساس، أي مشروع الفوضى الخلاقة، مواجهة تقوم على أساس وحدة مصالح الجميع، مع التأكيد مرة اخرى إن أي حل خارج هذه المعادلة هو في أحسن الأحوال مواجهة بائسة، جزئية، غير ذات جدوى ضمن جحيم معمم أمريكياً. وإذا كانت واشنطن مضطرة إلى المناورة ولعب سياسة الجزرة مع هذا الطرف أو ذاك، فإن العصا تبقى أداتها الأساسية.