الممانعة وضرورات المرحلة!

الممانعة وضرورات المرحلة!

نجد في الجذر اللغوي للكلمة المصدرية (ممانعة) أن فعلها (منع)، أي لم يعط الشيء. هنا يوضح المعنى اللغوي درجة القوة التي ينبني عليها الفعل، أي أن كل ممانع لديه قدرة ما على منع إعطاء الشيء، والسؤال هل لدى صاحب الفعل القدرة على استرداد أشيائه المسلوبة منه؟!.

وهنا نلجأ إلى مصدر آخر وهو (المقاومة)، لنجد أن فيه درجة أعلى من القوة والحدية والتي تصل إلى حد الصراع ..

لا تعدو المقدمة اللغوية كونها إلا وصفاً لأفعال مجردة، ولكنها قد تساعد في قراءة المشهد الحالي والتاريخي في سورية.. وفي هذا السياق بالإمكان وضع تصور أولي لماهية الممانعة، حيث يمكن القول عنها إنها حد معين من التناقض مع الخارج، وبالوقت نفسه هي تعبير عن درجة التناقضات الداخلية في المنظومة.. طبعاً لا تمثل الممانعة في سورية موقفاُ سياسياً منفصلا عن تلك البنية الموروثة بكل أعمدتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

في التناقض الداخلي..

 أفضى الصراع التاريخي في المنطقة إلى إنتاج منظومة اقتصادية قدمت خلال العقود الماضية مجموعة من المكتسبات الاجتماعية التي لامست شريحة واسعة من فئات الشعب: (التأميم والإصلاح الزراعي ومجانية الصحة والتعليم ومشاريع البنى التحتية الكبرى وبناء قطاع عام متحكم بالأسواق لمصلحة فئات الشعب الأفقر، امتصاص البطالة). أمنت هذه الإجراءات حداً هاماً من الرضا الشعبي، مما خفف حدة التناقضات الداخلية. ورغم هذه المكتسبات عانت هذه البنية الهامة الكثير من المشكلات، إذ لم تؤمن حداً عالياً من الاستقلالية الاقتصادية وخاصة في البنية الصناعية، كما لم تستطع الحد من نمو طغم مالية تجارية استفادت من خلل في بنية الاقتصاد السوري تمثل باعتماده الكبير على الاستيراد. استفادت تلك الطغم كثيراً من عثرات القطاع العام وقصوره عن تلبية الكثير من الحاجات، وكلنا نتذكر التأخر في إنجاز أي مشروع يتصدى له القطاع العام وسوء التنفيذ، (مترو دمشق نموذجاً للتأخير)، و(مؤسسة سندس للألبسة نموذجاً لسوء التنفيذ). يضاف إلى كل ذلك البيروقراطية التي سمعنا عنها كثيراً حتى كفرنا بكل وجودنا عندما كنا نلمسها (نحتاج إلى أشهر من المسير الماراتوني فيما لو أردنا السعي في معاملة تقاعد لكادح ستيني)..

استغلت الطغم التجارية ذلك القصور لتكوّن شبكة من السماسرة داخل جهاز الدولة ومؤسسات القطاع العام، مما جعل الفساد يستشري ويكبر إلى أن صار قوة تنافس تلك الطغم بنفوذها الاقتصادي ونفوذها السلطوي.

في التناقضات الخارجية

استفادت تلك المنظومة من التوازنات الدولية، وخاصة في حقبة الحرب الباردة والهبات التحررية، كما استفادت من الموقع الجيوسياسي والتوازنات الإقليمية، مما منحها قدرة عالية على الإمساك بأوراق هامة بالمنطقة. لا بل صارت لاعباً أساسياً وقوياً على خط المواجهة مع الوجود الامبريالي في المنطقة. سرعان ما أفرز الوجود الامبريالي نقيضه الموضوعي، وهو قوى المقاومة، فكانت بنية المنظومة السورية بكل إشكالاتها هي الأقرب إلى احتضان هذه المقاومات، خاصة بعد خروج مصر من معادلة الصراع. لا بل ساهمت البنية السورية في تأمين دعم كاف لهذه القوى، مما جعلها حجر عثرة حقيقياً في وجه المشروع الامبريالي الساعي للسيطرة على المنطقة بـ(فوضاه الخلاقة) أو بهيمنة كلية على ثرواته كافة..

متغيرات سياسية

كان لسقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكية صدى هائلاً في بلدان الشرق الأوسط، والتي اعتمدت كثيراً على موازين القوى الذي كان يلعب الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية وزناً هاماً فيها. أدى ذلك السقوط إلى إضعاف حضور البلدان الحليفة للسوفييت مقابل صعود دور للقوى الحليفة للأمريكان في الشرق الأوسط. كانت حرب الخليج الثانية أحد أخطر نتائج انهيار الحليف السوفييتي، حيث وصل عندها المشروع الأمريكي إلى ذروة ازدهاره، فاستطاع فرض تسوية على منظمة التحرير، كما استقر له الوضع في الخليج وفرض مفاوضات مدريد على كل أطراف الصراع. وعلى الرغم من كل التقدم الأمريكي المحقق في الساحة الخليجية، إلا أن الجنوب اللبناني نال حريته بقوة مقاومته المحتضنة في سورية، كما ضربت الانتفاضة الفلسطينية عمق إسرائيل مثلما عاودت المقاومة اللبنانية هز عمق إسرائيل في 2006رغم نجاح أمريكا في احتلال وضرب العراق المتماسك بقبضة صدام الحديدية.

متغير الأزمة الرأسمالية

كان لاشتداد الأزمة في بنيان الاقتصاد العالمي المبني على الرأسمالية تجليات خطيرة، ربما كان أكثرها وضوحاً هو الانهيار الكبير في الاقتصاد العالمي في 2008. إلا أن إرهاصات الأزمة الكامنة ما قبل الانفجار دفع الأمريكان وعبر كل حلفائهم، للضغط على كل دول المنطقة، والتي كانت تشكل تاريخياً حجر عثرة في وجه مشروع السيطرة المطلقة للأمريكان على المنطقة. كانت حرب أمريكا على الإرهاب في أفغانستان والعراق مقدمات ضرورية لتنفيس الأزمة قبل انفجارها. ترافق ذلك مع مشاريع أخرى غير عسكرية هدفت للسيطرة على البلدان الأخرى في المنطقة كسورية وإيران. كان التوجه إلى سورية ضرورة، وإن لم يكن في تلك اللحظة من باب عسكري- رغم وجود ذلك الخيار من 2003عام وكان التمهيد الضروري هو خلخلة بينة المنظومة من الداخل لتسعير التناقضات الداخلية إلى حين استقرار الخيار للضرب العسكري. في هذا السياق سعت القوى الاقتصادية وغيرها الناشئة في البنية السابقة إلى توافق ما فيما بينها، وأبدعت خمس سنوات من إجراءات اقتصادية ليبرالية بحتة. أنتجت هذه الإجراءات تقاسماً جديداً لثروات البلاد. أعطى هذا التقاسم قيادة غير معلنة للاقتصاد السوري لمصلحة قوى الفساد مقابل حصة كبيرة للطغمة المالية التاريخية. وكل ذلك على حساب مكتسبات الشعب التاريخية وعلى حساب شرائح عرفت لمدة عقود طويلة بالفئات الوسطى، وسرعان ما قضت على أحلامها إجراءات رفع الدعم عن المازوت وعن المواد التموينية مما رفع من أسعار غذائها، وخصخصة وسائل النقل، وخصخصة التعليم والصحة، وظهور ناهبين جدد متمثلين بشركات التأمين والمصارف الخاصة، وخصخصة للقطاع العام وخاصة الصناعي مما ضرب إمكانية تطوير نموذج اقتصادي صناعي مستقل... ترافق ذلك مع تحرير للتجارة قضى سريعاً على احتياطي القمح الذي كنا قبل خمس سنوات فقط نباهي مصر أم الدنيا به..

كانت هذه باختصار البنية الاقتصادية للنظام بشقيها ما قبل سياسيات الانفتاح وما بعدها، والمحصلة حتى الآن درجة من  الاستقلالية الذاتية والصمود في القرار السياسي، لكنها لم تتطور إلى درجة إعطائه ثقلاً استراتيجياً يمكنه من حسم تاريخي في توجهاته الاقتصادية وحسم معركته الوطنية.

تساؤلات واقعية

يتساءل البعض اليوم: هل مازالت هذه البنية الممانعة تصلح لممارسة الدور التاريخي في احتضان المقاومة؟ ربما يستدعي الجواب على هذا التساؤل سؤالاً آخر يقدم نفياً موضوعياً لذلك التساؤل:  ما هي ضرورات المترتبة على السوريين في ظل الأوضاع الحالية، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أزمة الإمبريالية تدق أجراسها الأخيرة مما ينبئ بظهور رايات الحرب؟. وما هي البنية التي سنواجه بها الأمريكان؟ هل مازالت هذه البنية الممانعة ممانعة وهي التي أوغلت الإجراءات الاقتصادية في ضرب العديد من بناها الهامة؟ هل ممكن للمقاومة أن تستمر دون احتضان شعبي مبني على الإسراع في تلبية حاجات الناس في الحرية والعدالة الاجتماعية؟

والسؤال الأخطر: ما هي الوسيلة المثلى لتأمين وصفة الانتقال إلى الوضع الأمثل للمواجهة؟ وهنا لا ينفع الاختباء وراء فكرة الاحتضان الشعبي السوري لفكرة المقاومة، فالمادة الصمغية الضرورية لتلاحم الشعب في خندق المقاومة هي حاجاته في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية، والتخلص من الفساد والناهبين الكبار ومن يحميهم.