البطالة.. والجذور العميقة للاحتجاجات

البطالة.. والجذور العميقة للاحتجاجات

حتى لا نفقد البوصلة في غمرة الحراك الشعبي الجاري حالياً، علينا دوماً العودة إلى مرحلة ما قبل الحراك والبحث في تلك التراكمات التي ولدت الانفجار، وذلك حتى نستطيع توصيفه توصيفاً صحيحاً، ومن ثم المضي باتجاه ملاقاته والعمل على دعمه ومساعدته والسير في طليعته للوصول إلى أهدافه الحقيقية التي ينشد تحقيقها.

البطالة كانت إحدى تلك التراكمات التي ولدت الاحتقان، وبقوة، فهي على مستوى المجتمع إنما تعني حالة قد تهدد أمن الوطن واستقراره، وعلى المستوى الشخصي فهي تعني مستوى معيشي متدن ومستمر بالتدهور، وحالة من عدم الاستقرار وتقييد للحرية الشخصية، لذلك فإن الشعب عندما رفع مطلب الحرية فإن من بين ما كان يعنيه الحرية في اختيار ما يتناسب مع قدراته وكفاءاته ليلبي رغباته واهتماماته وحاجاته الأساسية.

الشباب والأرياف الضحايا الأكبر للبطالة ووقود الانفجار

يُعرف الشخص العاطل عن العمل بحسب منظمة العمل الدولية بأنه كل من هو قادر على العمل وراغب فيه، ويبحث عنه، ويقبله عند مستوى الأجر السائد، ولكن دون جدوى.

في سورية تشير الدراسات إلى أنّ عدد العاطلين عن العمل يزيد بمعدل ربع مليون شخص سنوياً. ويصل رقم البطالة حالياً إلى نحو (3) ملايين عاطل عن العمل، أي ما يشكل 45% من قوة العمل السورية.

نسبة العاطلين عن العمل بين من هم دون سن 30 عاماً مرتفعة جداً، فهي بحدود 52% من مجموع القوة العاملة حسب برنامج مسح قوة العمل والطلب عليها، والذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء. حيث يدخل سنوياً إلى سوق العمل 300 ألف شخص تقريباً، لكن الحكومة السابقة خلال الخطة الخمسية العاشرة لم تؤمن سوى 140 ألف فرصة عمل وسطياً خلال كل عام.

هؤلاء الشباب الذين شعروا بالاغتراب داخل وطنهم وبأن أحلامهم، وطموحاتهم، ورغباتهم قد تعثرت مع فشل السياسات الحكومية بإيجاد فرص عمل مناسبة لهم، كانوا وباعتبارهم الشريحة الأكثر حيوية وطاقة، وقوداً لابد له أن ينفجر ويتجلى ليعبر عن استيائه ويطالب بحقوقه، وقد لا تنفع في هذه اللحظات الحلول الأمنية لإسكاتهم فما من شي يخسرونه، وإنما جلّ ما يريدونه هو الأمان والعيش الكريم بمستوى لائق ليتمكنوا من تحقيق أحلامهم.

للريف أيضاً نصيب كبير من البطالة، فمع ارتفاع معوقات العملية الزراعية بسبب تراجع الدعم الحكومي وبالتالي ارتفاع تكاليفها، ازدادت أعداد سكان الأرياف الباحثين عن العمل، ولكن وبسبب عدم العدالة في توزيع المشاريع التنموية بين الريف والمدينة تعمقت المشكلة أكثر، وهاجر جزء كبير منهم إلى المدينة، ليغرقوا مجدداً في سيل من العاطلين عن العمل دون جدوى.

هؤلاء الممتعضون غير المرتاحين وغير الراضين كان لابد لهم أن يصرخوا ويطالبوا بالتغيير، و قد يكون جزء منهم عرضة للتضليل من جانب أطراف متعددة لها مخططاتها ومصالحها التي قد تجرف البلاد إلى ما لا تحمد عقباه.

الأسباب التي أوصلتنا

إلى هذه النتيجة

يرتبط السبب الرئيسي لتفاقم البطالة في الخطة الخمسية العاشرة بنيوياً بنمط الإنتاج السائد المرتبط بعلاقة تبعية مع المراكز الرأسمالية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، الأمر الذي يعني تحمُّل الحكومة السابقة لمسؤولية تفاقم البطالة بسبب إنتاجها لعوامل الأزمة، وأهمها:

1- السياسات الاقتصادية الجديدة المتمثلة في تخلي الدولة عن دورها الرعائي اقتصادياً واجتماعياً.

2- ضعف النمو الاقتصادي في القطاعين العام والخاص مقارنة مع الزيادة في حجم القوة العاملة السنوية.

3- تركيز القطاع الخاص في أعماله على قطاعي التجارة والخدمات، حيث تشكل هذه المشاريع ما يقارب 50 % من المشاريع في القطاع الخاص، مما قلل من امتصاص الأعداد الكبيرة من سوق العمل كما في المشاريع الصناعية والزراعية.

4- عدم التوسع في المشاريع التنموية، وعدم وجود توزيع عادل لها بين جميع المحافظات وبين الريف والمدينة.

5- ازدياد تفشي الفساد في أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتغاضي الحكومة عن محاربته أو حتى محاسبته، هذا الفساد الذي لم ينحصر في نهب أموال الدولة وعدم التوزيع العادل للثروة فقط، بل تجلى أيضاً في اتخاذ قرارات عشوائية غير متكاملة أدت إلى تأزم البطالة، وعدم وضع الإنسان المناسب بالمكان المناسب، واستبعاد العناصر النزيهة ذات الكفاءة العالية، ما أدى إلى تخسير وتفشيل العديد من المؤسسات المنتجة.

إذاً الفساد، انخفاض معدلات النمو، تراجع دور الدولة جميعها عوامل أنتجتها السياسات الاقتصادية الليبرالية التي انتهجتها الحكومة السابقة، وبالتالي هي تتحمل مسؤولية كبيرة في تولّد الاحتقان، وفي حالة عدم الرضا العامة التي دفعت العديد إلى المطالبة بالتغيير، وأيضاً في انتشار حالة من الفوضى قد يستغلها البعض، لذلك يجب القطع الكامل مع تلك السياسات ومعاقبة كل من تبناها، ولكن السؤال المطروح اليوم، هل ستستطيع الحكومة الجديدة فعل ذلك والمضي قدماً باتجاه الحلول الجذرية وإصلاح ما أفسدته الحكومة السابقة، أم أنها ستستمر في النهج نفسه، وبالتالي ستترك الباب مفتوحاً أمام انفجارات لاحقة قد تكون أشد قوة وأكثر حدة؟.