خرافة ديمقراطية المكوّنات
الديمقراطية هي النقيض الموضوعي للاستبداد بجانبيه السياسي والاقتصادي، وعلى خلفية القهر المزمن التي مرت به شعوب المنطقة ومنها الشعب السوري كان من الطبيعي أن يكون سؤال الديمقراطية هو السؤال الأول على جدول أعمال المرحلة التاريخية الجديدة التي أتت بها ضرورات الواقع الموضوعي، ولأن الديمقراطية ليست معطىً إرادوياً فإن إجماع الناس على أهميتها لا يعني الاتفاق على مضامينها المتعددة لأن تفسير المفهوم يختلف بين قوة سياسية وأخرى، وبين مرحلة تاريخية وأخرى، وهي في الحقيقة لها معنىً واحد وهو ايجاد البنية الحقوقية والسياسية القادرة على التعبير عن مصالح الأغلبية في البلد المعني.
مع ظهور مؤشرات جديّة على إمكانية الشروع بالحوار كأحد أدوات الحل السياسي الذي سيحدد شكل النظام السياسي اللاحق في سورية، وتالياً النموذج الديمقراطي الممكن، فإن ملامح الصراع حول ماهية هذا النموذج بدأت تظهر شيئاً فشيئاً انعكاساً لبنية القوى السياسية القائمة، ومصالح القوى المتصارعة التي تحاول توليف خططها مع توازن القوى الجديد عالمياً ومحلياً، فالحرب كأداة لمشروع التفتيت والتقسيم لم تحقق الأهداف المطلوبة منها كاملةً، ولكنها حققت إمكانية التأسيس لقوننة المشروع وتسويقه بأداة سياسية تتمظهر بأنها ديمقراطية لكنها في الجوهر استبداد من نوع آخر، استبداد يستبدل الضبط القسري لقوى المجتمع وفق مصالح الطبقة الحاكمة، بتغييب غير مباشر وكلي لإرادة الأغلبية الشعبية الكادحة الموزعة بين كل «المكونات» لمصلحة النخب الطائفية والقومية والدينية، عبر نموذج «ديمقراطية» المكونات التي تعني حسب التجربة الملموسة «العراق، لبنان» توزيع الثروة والسلطة بين نخب تلك المكونات، وبالتالي استغلال حاجة المواطن إلى الانتماء والاحتماء في ظل غياب الدولة وذلك لفرض زعامة هذه النخب على من يزعمون تمثيلهم من جهة، وعلى امكانية تحكمهم بمجموع تطور البلاد من جهة أخرى، وذلك من خلال ما يملكونه من «فيتو» تم تخويلهم باستخدامه بزعم تمثيل طائفة أو قومية أو دين، لهم حق استخدامه متى شاءت مصالحهم الخاصة، حتى لو تعارض ذلك مع مصلحة الكل الوطني، هذا النموذج يضع الكل في مواجهة الكل، لا على أساس تناقض المصالح كأمر طبيعي في أي مجتمع استغلالي، بل على أساس مصالح النخب نفسها، وبالتالي يشتت قوى الأغلبية المنهوبة لمصلحة الناهبين، ويدخلها في أتون معركة هي ليست معركتها بالأصل، وبالتالي يعيق التطور الموضوعي الذي يتجسد في هذه المرحلة التاريخية من تطور المجتمع البشري بالاندماج ليس داخل كل بلد فقط، بل حتى على المستوى الكوني، فيصبح هذا النموذج الديمقراطي والحال هذه في بلد مثل سورية عائقاً صناعياً أمام التطور الطبيعي الذي تعكسه وحدة المصالح، والتاريخ والمصير المشترك لهذه «المكونات»
إن إشغال الجماهير العريضة بصراعات وهمية ينسف أية امكانية لبناء ديمقراطي حقيقي، وبناء دولة حقيقية، فالحديث عن الديمقراطية الحقيقية في ظل تقاسم السلطة والثروة بين النخب هو أقرب إلى الخرافة منه إلى الديمقراطية، وينهك في الوقت ذاته كل القوى لتعيش في حالة العطالة التاريخية وفي ظرف عالمٍي لامكان فيه إلا للدول والتكتلات الكبرى، ولاسيما أن تاريخ المنطقة، ومنها التجربة السورية يؤكد أن إحدى هذه المكونات نالت حقوقها الخاصة دون الآخر، لأن الحقوق في الأصل واحدة، بمعنى آخر لاتوجد إمكانية للتحايل على الجغرافية والتاريخ، فآلاف السنين من العيش المشترك، وتشابه مستوى التطور الحضاري، والأهم المصالح المشتركة في التقدم الاجتماعي يحتم على هذه «المكونات» البحث عن حلول عامة. دون أن يعني ذلك عدم احترام الخصوصية الثقافية، فاحترام هذه الخصوصية كجانب من جوانب المكون الروحي للشخصية الإنسانية، وكحق مشروع لها شيء، أما تسييس ذلك لتحقيق أجندة سياسية لها علاقة بالتفتيت وتقاسم الثروة والسلطة بين النخب فهو شيء آخر.