الشعب السوري في متاهة إعلامين وروايتين متناقضتين

الشعب السوري في متاهة إعلامين وروايتين متناقضتين

إن فهم السياسة الإعلامية اليوم، لم يعد حكراً على الدارسين فقط، بل أصبح حديث الشارع السوري بكافة أطيافه، بعد الدور الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام الخارجية والمحلية في تغطية الأحداث في البلاد، معبرة عن مصالح الجهات المالكة لها، بحيث تحولت من مجرد ناقل للحدث إلى عامل مؤثر في صناعته وتوجيهه..

أعطت وسائل الإعلام الخارجية أهمية كبيرة للشأن السوري منذ ظهور بوادره الأولى وحتى قبل أن يتصاعد. مقابل تجاهل بعض التحركات ذات الطابع المشابه في بعض الدول الخليجية مثلاً. مظهرة تأييداً ودعماً لـ«مشروعية» مطالب السوريين، التي ربما لا تختلف في جوهرها عن مطالب بعض الشعوب العربية الأخرى، ما يترك أسئلة جادة حول سبب التركيز الشديد على الشأن السوري؟ والأهداف الخفية وراء ذلك؟

وفي السياق نفسه اعتمدت العديد من وسائل الإعلام الخارجية أسلوب إدخال بعض الأكاذيب ضمن منظومة من الأخبار الصحيحة والواقعية، أو تهويل بعض الأخبار، مستغلة بذلك التواتر المتسارع للأحداث، وغياب المعلومات الدقيقة في ظل التعتيم الإعلامي الذي تفرضه سورية، ومستغلة أيضاً حالة القلق والترقب التي يعيشها المواطن السوري.

أما المظهر الأكثر خطورة في تغطية الإعلام الخارجي للوضع في سورية، فقد تجلى الآن وبوضوح من خلال تبنيها للحل المطروح للأزمة والمتمثل حالياً بالاتجاه نحو تدويل الشأن الداخلي السوري والحديث عن فرض عقوبات على سورية، وهو أمر اجتمعت معظم آراء السوريين الوطنيين على اختلاف آرائهم، على رفضه والتحذير منه، كونهم يعرفون تمام المعرفة أن أية محاولة للتدخل الخارجي أو فرض عقوبات سيؤثر أولاً وأخيراً على الشعب السوري قبل حكومته أو رموز الفساد فيه.

تلك كانت بعض الأدوات المستخدمة في وسائل الإعلام الخارجية، ربما كان من السهل على البعض تحميل المسؤولية كاملة لوسائل الإعلام الخارجية وقذفها بشتى أنواع الشتائم، إلا أنه وفي نهاية المطاف لا يستطيع المرء سوى الاعتراف بأنها وسائل «خارجية»، ومن الطبيعي أن تنقل الأحداث بما يخدم مصالحها وتوجهاتها وما يحقق لها أعلى مستوى من الأرباح، وأننا لم نكن لنضطر للجوء إليها كمصدر معلومات لو كان حق الحصول على المعلومات مكفولاً والبديل الإعلامي الوطني موجوداً!

فالإعلام السوري من جهة أخرى حكمته أيضاً سياسة إعلامية من نوع آخر، عبرت أيضاً عن مصالح الفئات المالكة والمسيطرة عليه.. وقائمة الأخطاء التي ارتكبها الإعلام السوري تطول لتشمل بداية التعتيم الإعلامي على الحدث، ومنع وسائل الإعلام من التغطية المباشرة من داخل الأراضي السورية، التي تركت فراغاً حقيقياً صادر حق الشعب السوري بمشاهدة ما يجري على أرض بلاده والاضطرار لمشاهدة صور مشوشة منقولة من الهواتف المحمولة والكاميرات الصغيرة عبر المحطات الأخرى، وغالبها معاد، ما زاد من حالة توتر المواطن السوري، ثم تعود وسائل الإعلام السورية بعد ذلك لتكذيب تلك المشاهد مدعية تركيبها حيناً أو سرقتها من أرشيف الحرب الأمريكية على العراق حيناً آخر.

كذلك تابع الإعلام السوري تبنيه لسياسة الإنكار التي وإن اعترفت متأخرةً بمشروعية الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح ووقف الفساد، إلا أنها عملت طوال الوقت على تجاهل تناميه وتوسعه الأفقي والعمودي، ولم تتجاوز في أحسن حالاتها وصفه بالعشرات وهو وفي عدة أماكن وصل فعلياً إلى آلاف، ولم يستطع الإعلام السوري أن يفسر «المؤامرة الخارجية الكبيرة»، التي نسمعها مئات المرات وعلى لسان أبسط المتصلين وأفخم المحللين في تكرار ممض لا يراعي الدرجة المتقدمة لوعي الشارع السوري، فتفكيك المؤامرة يقتضي فهمها بأبعادها المختلفة ولن ينطلي على أحد القول بأن المؤامرة بكاملها خارجية دون القول بأن هنالك من خلق أرضية مناسبة لتلك المؤامرة داخلياً، بل وبدأها عملياً قبل الأحداث بكثير بأن راكم الاحتقان والغضب في صدور السوريين جراء فساد مستشر لم يبق ولم يذر.. ليأتي بعد ذلك الانتباه من المتأخر للتحرك الدولي تجاه سورية، لكنه عمد إلى إجهاض الحركة الشعبية المطالبة بالإصلاح وتحويل كل المتظاهرين في نظر الشعب السوري إلى خونة وعملاء خارجين، كونهم عرضّوا البلاد لشبح تدخل خارجي!. وذلك دون حساب حقيقي وجاد لكون التدخل الأجنبي الذي يبدو أنه قادم لا محالة يحتاج إلى تحصين الجبهة الداخلية وإعادة بناء الثقة سريعاً بين الشعب السوري ومؤسساته وبناء الثقة هذا يبدأ بالتصارح وطرح الأوراق جميعها على طاولة الحوار الوطني والتوقف عن التعاطي بمنطق الوصي على عقول ومستقبل وأحاسيس الناس..

هذا وتعد لعبة «إثارة الفتنة» من أخطر الألاعيب التي لا يمكن غفرانها، وقد مارسها الإعلام المحلي سواء وعى ذلك أم لم يعيه، من خلال تحويل المطالب الجماهيرية إلى مصالح فئوية وتزكية مشاعر الخوف من حرب طائفية، والتحذير منها، الأمر الذي أراد البعض من خلاله دفع الشعب السوري إلى التراجع عن مطالبه المشروعة خوفاً على بقائه وأمنه، الذي بدا أنه الثمن الذي سيدفع في حال استمرار المطالبة بالتغيير.

يقف الشعب السوري الآن محتاراً بين إعلام داخلي ينكر ما يحصل، وخارجي يعمل على تهويله، ليبقى للمحاكمة الخاصة، والتفكير المنطقي، وبعض الصحف الوطنية النزيهة، والعودة إلى التاريخ، الكلمة الفصل في تبني الآراء والمواقف والأفعال. ولذا فإن الإعلام الوطني يتحمل اليوم مسؤولية كبرى تصل إلى مستوى يهدد بحقه في صفة وطني، ذلك أن الإعلام الوطني الذي لا يحوز ثقة الناس يتحول إلى محرض ومستفز للفوضى ومرة أخرى سواء وعى ذلك أم لم يعيه..