غياب الحريات السياسية.. ونشاط قوى الظل!
كانت الأحاديث عن السياسة والوضع العام في سورية خلال العقود الثلاثة الماضية تجري همساً، وكان الهمس هو الواقعية بعينها، وهو الاستقرار والأمان السوريان، ومن كان يعلو صوته بالسياسة فهو شبهة على من حوله، ومورط لهم «ومعكّر للصفاء بين عناصر الأمة»، كما تسمّى إحدى تهم الرأي في محكمة أمن الدولة التي جرى حلّها، فأمست السياسة تابو حقيقياً بما يحمله من تناقض بين القدس والنجس، قدسه بوصفه تعبيراً عن حاجات الناس، ونجسه المتمثل بسوء العاقبة ورعب المآل..
كان حديث الناس في معظم الأحيان يتناول إما قضية نهب كبيرة أو صغيرة في إحدى المؤسسات العامة، أو السلوك الشخصي المتعالي لأحد الكبار من المسؤولين الفاسدين واستهزاءه بالناس في هذه المدينة أو تلك، أو عاقبة أحد المواطنين الذي فاض به الوجع و«خبّص بالحكي»...إلخ. وفي أحيان أخرى كانت طبيعة الحديث تختلف فكان بعض المسؤولين يظهر كمخلّص للناس من بطش سابقه أو «كآدمي وعينو شبعانة»، ومقيماً للعدل على الأرض بين صغار الموظفين أو بين المواطنين وماسحاً بالأرض من يخالف القانون..
ومن الطبيعي أن يكون المشترك بين جميع أنماط أحاديث السياسية، إضافة إلى كونها تجري سرأ وفي الظل، أنها ذات طابع تفصيلي، وقد تأخذ شكل التنفيس والشكوى، وأحياناً شكل النميمة والإشاعة.. والأهم من هذا كلّه أنّها تمثّل شكلاً من العدمية والسلبية السياسية وعدم الثقة إزاء أي مشروع جدّي بتخطي الأوضاع السيئة للبلاد، حتى غدا ذلك طابعاً عاماً لمجتمع بأكمله.
ويعرف السوريون جيداً أن كل هذا يعود إلى غياب الحراك السياسي في سورية لأكثر من ثلاثين سنة خلت، والذي كان من المفترض أن يعبر السوريون من خلاله عن همومهم وحاجاتهم، ويعرفون أيضاً أن ذلك الغياب يعود إلى انعدام هوامش الحريات السياسية في سورية، وإلى احتكار النشاط السياسي بإطار وحيد هو الجبهة الوطنية التقدمية، والتي غدت أحزابها منقطعة عن الحركة الجماهيرية ومستقلة عنها، بحيث سقطت عن دورها في المجتمع صفة السياسي وربما بقي لبعضها الدور الإداري في حدود بيروقراطية جهاز الدولة. ولمّا كان المجتمع كالطبيعة لا يقبل الفراغ، فلن يستطيع غياب الحراك السياسي إيقاف الحراك الاجتماعي والتيارات الاجتماعية المنبثقة عن الطبقات والشرائح المختلفة، ولكنه يستطيع بالضرورة حرف التيارات الاجتماعية عن ملامسة مصالح تلك الطبقات والشرائح التي انبثقت عنها، وهنا تكمن خطورة غياب الحريات السياسية في البلاد، فما ذُكر آنفاً عن سلبية التعاطي بالشؤون السياسية كان أهون الشرور وأبسطها، ويعكس الحالة العامة للناس الممكن تداركها ببساطة بإعادة إحياء التقاليد السياسية في البلاد..
أما السلبية السياسية الأخطر تكمن في عودة البعض إلى انتماءات ما قبل الدولة الوطنية كالدين والطائفة والعشيرة والعائلة..إلخ. حتى تصبح تلك الانتماءات هوية بديلة عن الهوية الوطنية السورية، وتصبح الوحدة الوطنية للشعب السوري في تهديد حقيقي، وتنشأ قوى مجهولة ومرتبطة بالخارج في ظلام القمع والفساد وهذه الإمكانية كبيرة مع غياب الحريات السياسية والتمثيل السياسي الصحيح..
لم ينعكس انعدام الحريات في سورية على الناس وحدهم، بل انعكس أيضاً على السياسيين والأحزاب والمثقفين ومختلف النخب، وأدى إلى قصور في الممارسة السياسية والإدارية في البلاد، فحتى الذين استشعروا الخطر المحيق بالوحدة الوطنية وتراجع الإحساس بالوطن والمواطنة، كانت معالجتهم للوضع القائم قاصرة وسطحية عندما أخطؤوا في تحديد رموز الوحدة الوطنية الحقيقية، وعندما وقعوا في مستنقع التطبيل لإخاء «المكونات الوطنية» للشعب السوري، بدلا من الإصلاحات السياسية الحقيقية التي كان من الممكن لها أن تجنب البلاد آلام التخبط الداخلي، وتدخلات الخارج ومحاولات امتطاء ظهر الجماهير السورية في حراكها والمزاودة بدمائها..
فلم يعد اليوم، وفي هذه الظروف التي تشهدها البلاد ما يغني عن رفع قانون الطوارئ، وإلغاء الأحكام العرفية، وإحلال سلطة القضاء النزيه عبر إصلاحه، وإصدار قانون للأحزاب والانتخابات والإعلام، وإطلاق سراح معتقلي الكلمة والرأي، وإطلاق الحريات العامة التي ضمنها الدستور..
فلا بد اليوم لهذا الوطن من أن يعيش كريماً، ولا بد لأبنائه من كرامتهم..
لا أحد يريد بروتوكولات للوحدة الوطنية، فلن يغني أي لقاء أو حفل عن حرية كلمة الشعب، ولقمة الشعب، وكرامة الوطن..