التغيير كضرورة وحتمية تاريخية
بالعودة إلى مشروعي البرنامج والنظام الداخلي المقدمين للمؤتمر الحادي عشر للحزب، وتحت عنوان المرحلة ومهامها نجد ما يلي: (إن الترابط العميق إلى حد الاندماج بين القضايا الثلاث: (الوطنية، والاقتصادية ـ الاجتماعية، والديمقراطية) هو المدخل العلمي الوحيد لتفسير الواقع السوري تفسيراً صحيحاً يسمح بتغييره ). إن مفهوم (التغيير ) يقتضي استحضاراً لمعاني التطور، الانتقال، الحركية وبالتالي تجاوزاً لمقولات السكون، الثبات، الاستقرار، ولذلك فهو ينصب وبشكل أساسي على الواقع الاجتماعي ، وهذا يتطلب دراسة الواقع المراد تغييره دراسة تحليلية من منظور وظيفي يبين أجزاء هذا الواقع ووظيفة كل جزء منه، ومدى انسجامه الداخلي، وانقساماته ، ومعرفة العلاقات والارتباطات والقوانين التي تحكم هذا الواقع، ومن خلال دراسة هذا الواقع يتم تفسيره علمياً، ووضع استراتيجيه عامة للتغيير تأخذ بعين الاعتبار الخصائص المميزة للمجتمع والمتغيرات المستقلة والتابعة.
إن التفسير العلمي للواقع السوري يتطلب معرفة السيرورة التاريخية لمختلف جوانب هذا الواقع، وخاصة في العقود الأربعة الأخيرة، فقد شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تطبيق نموذج اقتصادي سمي منقبل النظام ب«التحويل الاشتراكي»، حيث شهد هذا النموذج تدخلاً قوياً من قبل الدولة في المجال الاقتصادي، وذلك بالاعتماد على الإنتاج الحقيقي وعلى دعم المعسكر الاشتراكي ومساعدات دول البترودولار العربية، حيث حقق قدراً معقولاً من مقومات العيش للطبقات الفقيرة، ولكن مع انهيار الإتحاد السوفيتي وتوقف مساعدات الدول النفطية العربية و لعدم وجود تصور لتنمية متوازنة ومعقولة جعل من المدن الكبرى "محافل سكانية" تحيط بها أحزمة من الفقر والبؤس الإنساني، إضافة إلى ذلك ومع تطبيق السياسات الليبرالية في المنطقة فقد تحولت فئات واسعة من السكان إلى جيش من العاطلين عن العمل، وفي أحسن الأحوال إلى (بروليتاريا رثة) وفي ظل هذه الظروف نمت " ليبرالية متوحشة) وتحالفت مع (بيروقراطية متكسبة) ونتيجة لهذا التحالف نشأ (فساد فيروسي) انتشر في عروق المجتمع السوري وقام بالتهام عرق الكادحين والمنتجين دون أن يوفر لهم شروط العيش والكرامة وهذا أنتج حركة عموديه في السلم الاجتماعي أدت إلى عملية تمركز كبيرة للثروة بين يدي القلة، وترافق ذلك مع تدني منسوب الحريات السياسية، مما جعل من السلطة (دائرة مغلقة).. هذه الدائرة المغلقة عملت على تكريس أركان (الثالوث المقدس) في الجسد السوري وتجلى هذا الثالوث المقدس أولاً في البيروقراطية التي استباحت جهاز الدولة وحولته إلى مصدر للإثراء والكسب غير المشروع، وتجلى ثانياً في الليبرالية التي حولت الاقتصاد السوري إلى مرتع لسياساتها المستغلة والناهبة للثروة، والتي دمرت قوى الإنتاج الحقيقي بشكل يبدو ممنهجاً ومدروساً، وتجلى ثالثاً في الفساد الذي ضرب البنية الاجتماعية وخلق حالة عامة من التسيب والاستهتار مما فتح المجال لنمو التطرف الديني، بالاضافة إلى ممارسات بعض الأجهزة الامنية.. كذلك فإن القوى السياسية التقليدية فقدت جماهيرها بسبب بعدها عنها وعدم فهمها للتطورات على المستوى الدولي والإقليمي والداخلي، وتحولت المؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية إلى مرتع للمتثاقفين والانتهازيين...
إن التغيير عملية لا تأخذ طابعاً خطياً بل هي عملية مركبة ومتداخلة يبرز فيها فاعلون جدد يقومون بوضع رؤية لمجتمع جديد تتفاعل فيه كل المكونات.
أما عن شروط التغيير فهي:
أ. أن تكون الأشياء والظواهر المراد تغييرها منضبطة في حركتها من الماضي مروراً بالحاضر ومن ثم إلى المستقبل بقوانين (حتمية) وهذه القوانين موجودة (موضوعياً).
ب. اكتشاف هذه القوانين وتسخيرها في خدمة التغيير المنشود.
ج. بما أن الإنسان هو غاية التغيير والمنطلق الأساس له فيجب معرفة القوانين التي تخص الإنسان مثل قوانين الإرادة والعمل، والقوانين النوعية للأشياء والظواهر موضوع النشاط الإنساني، والقوانين الكلية التي تحكم الإنسان وإرادته والظواهر موضوع نشاطه معاً.
د. وصول التناقضات في المجتمع إلى مرحلة تنضج معها الظروف الموضوعية، والتي يصبح عندها التغيير أمراً لا مفر منه.
إن التغيير السلمي الجذري والشامل هو مجهود جماعي يستند إلى أدوات حاملة لمشروع التغيير.. هذه الأدوات تتمثل في:
أولاً: الطبقة العاملة: لقد ظل مفهوم الطبقة يحظى بأهمية تحليلية وتفسيرية لبعض شروط الفعل الإنساني منذ الفلسفة الإغريقية وحتى الآن، لكنه في النظرية الماركسية اكتسب أهمية خاصة كونه محركاً أساسياً للتطور التاريخي والاقتصادي للمجتمعات الإنسانية منذ التشكيلة المشاعية البدائية ومروراً بالتشكيلة العبودية فالإقطاعية فالرأسمالية وانتهاء بالتشكيلة الاشتراكية الشيوعية.. إن النظرية الماركسية باعتبارها قانون الصراع الطبقي خطاً عاماً للتطور التاريخي العالمي، فهي لا تنفي أن هذا القانون قابل للتعديل حسب واقع كل مجتمع على حدة وحسب درجة التطور التاريخي وحسب درجة تطور القوى المنتجة وحسب درجة الاستغلال التي تمارسها الطبقة المسيطرة والناهبة على الكادحين والمستغلين، وبقدر ما تكون الطبقة العاملة موحدة ومتضامنة وواعية لواقعها وعقلانية في تفكيرها بقدر ما تكون عملية التغيير أسرع وبتكاليف وتضحيات أقل.
ثانيا ــ الأحزاب الثورية الوطنية: تقوم بدورها الوظيفي المنظم والموجه لعمل الجماهير وذلك من خلال تشكيل أوسع تحالف ممكن بين هذه الأحزاب لقيادة عملية التغيير في الاتجاهات الأكثر ثورية وجذرية.. هذا التحالف يقوم بوضع الإستراتيجية العامة للتغيير من خلال القراءة الموضوعية للواقع المراد تغييره، والإمساك بالتناقض الأساسي بين قوى الاستغلال والنهب وبين المستغلين والكادحين مستفيدة في ذلك من خبرات وتجارب الحركة الثورية العالمية.
ثالثاً ــ الحراك الشعبي: وهو أحد العوامل المحركة للانتصارات التي حققتها الحركة الثورية العالمية في القرن العشرين، ويأخذ هذا الحراك أشكالاً تنظيمية تتناسب والمرحلة التاريخية التي وصل إليها المجتمع المراد تغييره. رابعاً ــ المثقف العضوي: وهو الحامل لمشروع التغيير وبناء المستقبل ومطالب بالدعوة إلى تكوين ثقافة ذات مضمون وطني مرتبطة بالحياة المعيشية للجماهير، ويكون مرآه عاكسة لحياة الناس بصدق ووعي يبرز عناصر الثقافة الإنسانية القائمة على التكافؤ وفهم الذات بروح عصرية، كذلك فإنه مطالب بمواجهة قضايا التغريب وثقافة الاستهلاك وتزييف الوعي لدى الجماهير من قبل مؤسسات السلطة، والسبيل لذلك هو المشاركة في المؤسسات الجماهيرية والالتحام مع الجماهير، وبذل الجهود لنشر التفكير النقدي عبر تحليل قضايا المجتمع السوري وتوضيح المزيف والحقيقي، وبالتالي خلق ثقافة واعية وواقعية وملتزمة تنبض بالحس الجماهيري.
يجب الإشارة إلى أن التغيير في حد ذاته هو نتاج لتراكمات كمية تفضي إلى تحولات كيفية، لذلك فإن الإرادة والعقل البشري والمتمثلة في النخب السياسية والفكرية تقع على عاتقها مهمة كبيرة تتحدد في إدارة هذه التحولات، ومن ثم إدماجها في كيان الفضاء الجديد الصاعد على مستوى البنى السياسية والاقتصاديةـ الاجتماعية والفكرية، وبالتالي الخروج من طور العطالة والتقليد والتبعية إلى آفاق جديدة من المساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية، وبناء مجتمع إنساني جديد ضمن أجواء من المشاركة والفاعلية والإبداع.