الشعب يريد القصاص من الفاسدين الكبار..
إن القول بأن الأزمة السورية قد بدأت منذ قرابة السنتين فقط، يفترض ضمناً أن البلاد كانت خالية من التناقضات والأخطاء قبل هذا التاريخ.
ويربط هذا المنطق فعلياً ما بين الأزمة التي نعيشها وبين ظهور الحركة الشعبية، فينسب إلى هذه الأخيرة تردي الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي من خلال الفصل الميكانيكي ما بين الحركة الشعبية والأسباب العميقة التي فجرتها. ويندرج هذا الطرح أيضاً في خانة التعامي عن المفسدين داخل جهاز الدولة الذين جهزوا الأرضية للانفجار الذي تشهده البلاد..
نحن بحاجة إلى تفسير الأزمة تفسيراً صحيحاً وموضوعياً لكي نستطيع تجاوزها، لذا سيكون التعبير الأدق لما نشهده منذ عامين هو انفجار لأزمة اقتصادية- اجتماعية وسياسية متراكمة على مر عقود وسنوات طويلة، أي أنه ظهور للتناقضات - التي كانت موجودة أصلاً- على السطح، بعد أن كانت تعتمل باستمرار من خلال نمط معين من العلاقات في جهاز الدولة والمجتمع وبينهما، كمسألة توزيع الثروة والفساد الكبير والحريات السياسية والنمو الاقتصادي والسياسيات الاقتصادية..الخ، والبحث عن دور هذه القضايا في انفجار الأزمة السورية.
فإذا أخذنا العقد ونصف العقد الذين سبقا انفجار الأزمة، لرأينا الأزمة ذاتها التي نعيشها اليوم، ولكن بشكل آخر، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي: فساد ينشأ داخل جهاز الدولة ويتضخم مع تضخمه، ثم بعد درجة معينة من تطوره يتمكن من الإمساك بالقرار الاقتصادي، ويتبنى سياسات تتناسب مع مصالحه وتتناقض مع أغلبية الشعب السوري، هي السياسات الليبرالية الاقتصادية التي طرحتها حكومة عطري- الدردري في البداية تحت مسمى اقتصاد السوق الاجتماعي ثم المفتوح ثم الحر. وجرت يومها معركة طاحنة، لم تظهر إلى العلن إلا قليلاً، بين هذه الحكومة وبقية القوى النظيفة في جهاز الدولة والمجتمع حول هذا التوجه. ثم تمكنت تلك الحكومة من تبنيه في الخطة الخمسية العاشرة التي زادت نتائجها من معدلات الفقر والبطالة والتهميش، وقامت بإلغاء الدعم الحكومي لمواد أساسية مثل المحروقات، بالإضافة إلى إضعاف القطاع العام وخصخصة بعض شركاته الرابحة وتخسير بعضها الآخر. وفي المقابل عززت مواقع قوى الفساد الكبير في جهاز الدولة والمجتمع، ونشأ للأزمة تجارها في حينه، الذين هم نفسهم تجار اليوم. رافق هذه التحولات بشكل طبيعي ازدياد في مستوى القمع، الذي يتصاعد مع ازدياد معدلات الفساد والنهب موضوعياً، مسبباً أزمة سياسية أخرى ترافقت مع الأزمة الاقتصادية الاجتماعية.
كل ذلك سبق انفجار الأزمة وكان مقدمة لها، فلم يبق سوى إشعال فتيل الانفجار حتى تصعد الأزمة إلى السطح، وجرى ذلك في غاية البساطة، إذ كان الفتيل الذي فجر الأزمة من وحي ما قبل الأزمة وكان يحصل باستمرار، فلم يبدأ العنف أو السلوك المشين لبعض الأجهزة الأمنية مع انفجار الأزمة بل كان موجوداً في السابق، ولكنه عندما جاء في لحظة وصلت فيها التناقضات إلى حدها الأعلى ولد تغيراً نوعياً داخل المجتمع، وفجر احتجاجات شعبية لم تشهدها البلاد في تاريخها..
ثم كان التعامل الخاطئ مع الحركة الشعبية الذي زاد الطين بلة، والذي دفع بالحل بعيداً، فالقمع الذي قوبلت به الحركة الشعبية كشف دوراً لا يستهان به لقوى الفساد الكبير داخل جهاز الدولة وهيمنتها عى القرار في مفاصل كثيرة. الأمر الذي ساهم في دفع الحركة الشعبية بعيداً عن مصالحها باتجاه التسلح والعنف المضاد، وهو ما تلقفته القوى الخارجية المعادية لسورية، كقطر والسعودية وتركيا وساهمت به إلى جانب قوى الفساد الكبير داخل النظام كلٌ من موقعه. إلى أن وصلنا إلى دوامة العنف الحالية..
بناءً على ما سبق سيكون طريق الخروج من الأزمة عكس طريق الدخول إليها، ففي البداية ينبغي القيام بالإجراءات قصيرة الأمد للخروج الآمن من الأزمة، وذلك من خلال التخلص من مسبباتها المباشرة، وعلى رأسها الفساد الكبير الذي ينبغي تصفيته نهائياً، لأنه المسبب الأساسي لكل ما نشهده اليوم كما أسلفنا من قبل، ومحاكمة تجار الأزمات والقتلة المأجورين في الطرفين والمحرضين على العنف، والذهاب لاحقاً إلى الاجراءات ذات الأمد المتوسط أو البعيد المتعلقة بالنموذج اللاحق المطلوب لسورية الجديدة بنظام سياسي واقتصادي- اجتماعي جديد يصنعه الشعب ويتلافى كل الأزمات والأخطاء التي تعانيها البلاد الآن..