الصراع الحقيقي يبدأ حيث خبز الناس..
تندرج مفاهيم من نمط (النظام السياسي، شكل الحكم، الأحزاب، الانتخابات، حريات الأفراد وحقوق المرأة والطفل، جذرية النطاق الديموقراطي، القانون، التعليم، الثقافة في المجتمع..الخ) تحت ما يسمى بـ«البنية الفوقية» في المجتمع.
وهي عملياً انعكاس «البنية التحتية»، أي قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بكلام أبسط شكل الحكم والنظام السياسي والديموقراطية والحقوق والثقافة و..إلخ، تتحدد بشكل أساسي وجوهري بعلاقة بسيطة واضحة: هل هناك استغلال في هذا المجتمع وما مدى هذا الاستغلال، ومن هي الطبقة المستَغَلة، ومن هي المستَغِلة..؟
يفترض المنطق البسيط أن قدرة فرد من المجتمع على المطالبة بحقوقه والدفاع عن مصالحه ترتبط جوهرياً بمستوى وعي الفرد للاستغلال الواقع عليه وإدراكه ضرورة رفع ذاك الاستغلال، وفي حالة المجتمع الطبقي أي في حالة سيادة علاقات الاستغلال في المجتمع، فإن الفئة المسيطرة «الطبقة المستَغِلة» تسعى بكل إمكانياتها لمنع الفئة المسيطر عليها «الطبقة المستَغَلة» بأفرادها من الوصول إلى ذلك المستوى من الوعي والإمكانيات بحيث تستطيع الدفاع عن مصالحها ضد الاستغلال القائم، ويتم ذلك المنع في المجتمع وتتجسد تلك المعركة من خلال مئات التفاصيل من إنتاج القوانين إلى نمط انتخابات وبنية جهاز دولة والأدوات الثقافية التي تشرعن الاستغلال وتغطيه بالعرف الاجتماعي والقانوني والثقافي، لتحقيق وتسهيل عملية قبول المجتمع والطبقة المستَغَلة للاستغلال.
واليوم في مخاض «الحوار» و«الحل السياسي» وكل ما يتبعه من يبانات وتصريحات ومواقف، يتمركز الخلاف أساساً على نقاط مثل، كيف سيكون شكل الحكم، كيف سينتخب الرئيس، ما هي السلطة التي ستأخذها هذه الجهة أو تلك القوة السياسية، وكيف ستكون «تقسيمة» السلطة الاقتصادية والسياسية، وتظهر قضية الصراع المسلح كأنها الساحة الرئيسية لحسم ذلك الصراع، لتبدو الصورة وكأن من يحصل نقاطاً أكثر على الأرض سيتحكم لاحقاً ويفرض ما يريد في الحوار والحل السياسي..
وعبر الوسائل المختلفة، العقوبات والحصار و«الاختراق» في الاقتصاد، البيانات والمواقف والتهديد و«الاختراق» في السياسة، وفي الإعلام: التأطير والتركيز على زاوية واحدة في رؤية الأحداث وتحليلها، وإعطاء الأولية للصدام المسلح فوق السياسة والمنطق، عبر كل تلك الوسائل وغيرها الاجتماعي والثقافي، يتم تقديم عناصر البنية الفوقية على أنها المسألة المحورية التي يجب أن تحسم في الصراع، ويبدو في لحظة ما أن الجميع متفق على كل شيء، كل شيء إلا شكل الحكم وكيفية تقسيم السلطة و«فلان» سيأخذ المنصب كذا و«فلان» يستولي على القطاع كذا، أما توزيع الثروة الوطنية والنظام الاقتصادي الاجتماعي وحقوق غالبية الشعب السوري _الأغلبية الفقيرة المنهوبة_ فلا حديث في ذلك ولا نقاش، الكل متفق على الرسمة نفسها، النهب نفسه، وقد كُتب الكثير من التحليل الضروري في التحالف الضمني بين قوى الفساد المتشددة في النظام والقوى الفاسدة المتشددة في المعارضة، التحالف المخفي ظاهرياً والمستند على أساس المصالح الطبقية لتلك القوى الفاسدة وبرنامج النهب والاستغلال الذي تحمله في الجوهر.
تثبت الحياة اليومية للمواطن السوري المهاجَم من الجهات كافة أن الذي يجب أن يتفق عليه الجميع هو أين تكمن المصلحة الحقيقية للشعب السوري، وواضح أن أغلبية الشعب تتفق مصالحها في الانطلاق القريب للحل السياسي الحقيقي، عبر الأداة الأساسية وهي الحوار لأنه موضوعياً الحل الوحيد «الآمن» للخروج من الأزمة، إذ تتوافر العديد من الحلول الأخرى بما تحمله من مخاطر على مستقبل البلد أرضاً وشعباً، من هنا يأتي التركيز على ضرورة انطلاق الحوار سريعاً ولو «بمن حضر» حسب ما يفرضه الظرف السوري الحالي، وبما أن العديد من الأطراف المتحاورة مستقبلياً «ستفترض» أو «ستدّعي» تمثيلها لأغلبية الشعب السوري وبالتالي أحقيتها بالحصة الكبرى في الرسمة السياسية الجديدة، فإن المفترض التدقيق في واقع أن الأداة الأساسية لقياس التمثيل الجماهيري والتي هي الانتخابات البرلمانية هي غير متوافرة، لأن قانون الانتخابات الحالي ابن المادة الثامنة القديمة المعبرعن عقلية الحزب الواحد الحاكم، يكرس حالة السلطة التشريعية الضعيفة والتمثيل غير الحقيقي والمسيطر على عمليته من إما جهاز الدولة أو قوى المال والفساد.
إذاً فمقياس التمثيل الشعبي يجب أن يعتمد على الأساس الاقتصادي الاجتماعي، المربع الأساسي حتماً للأغلبية السورية، وبغض النظر عن البرامج المختلفة والمتباينة للقوى وماستثبته من قرب أو بعد عن هذا المقياس، فإن ما يجب أن يكون محسوماً ومتفقاً عليه جميع «المتحاورين» المستقبليين أن شكل توزيع الثروة الوطنية وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع تلك الثروة هوالذي يحسم رضا الناس عن النظام السياسي أم لا، وبالتالي يحسم دفاع الناس عن مصالحهم في التوزيع العادل، ودفاعهم عن ذلك الحوار الوطني المأمول ونتائجه، وهو ما يؤسس حتماً لنموذج تدافع فيه الناس عن مصالحهم وحقوقهم، أي النموذج الديموقراطي المطلوب بالمعنى الجوهري دون الدخول في تفصيل شكله في هذا المتن. إذا ليس المقصود أبداّ التقليل من أهمية شكل النظام السياسي، تعددي أم نظام الحزب الواحد، وقانون الانتخابات البرلمانية والفصل بين السلطات، لكن المقصود هنا عدم ضياع البوصلة والتأكيد على أن الصراع الأساسي يبدأ من البعد الاقتصادي الاجتماعي ويتجسد في الديموقراطي والتفصيلي والوطني العام.. الصراع الحقيقي يبدأ حيث خبز الناس..