العلمانية كواجهة للإسلام السياسي..
لا تكفي الصبغة العلمانية وحدها، أو أية إشارة إيديولوجية اسمية، في تحديد الهوية الفعلية لأية حركة أو حزب أو تيار سياسي، لأن هوية أي اتجاه سياسي يحددها البرنامج السياسي والاقتصادي- الاجتماعي بالدرجة الأولى، فكم من أحزاب وقوى في التاريخ حملت السلاح ضد بعضها البعض على الرغم من أنها تشترك من حيث إسلاميتها أو مسيحيتها أو علمانيتها..إلخ، ولم يكن السر في ذلك (الطربوش) الإيديولوجي بقدر ما كان صراعها تعبيراً عن مصالح سياسية وطبقية متناقضة، واليوم تلبس بعض الشخصيات والقوى عباءة العلمانية لتكون واجهات وديكوراً لقوى سياسية معروفة بتعصبها وتطرفها اللذين وقفا حاجزاً بينها وبين الجماهير على مر عقود..
بالرجوع إلى تجربة شعوب بلدان العالم الثالث مع العلمانية في القرن الماضي، استخدمت الأنظمة الاستبدادية التي ارتبطت مصالحها بالغرب العلمانية كشعار لتنافس فيه الحركات الوطنية والتحررية والقوى الثورية، والتي كانت علمانية بدورها وحظيت بتأييد شعبي واسع، فقد استخدمت العلمانية كمكياج لأنظمة كانت تخنق الحريات السياسية وتقلص من الهوامش الديمقراطية، وتمتلك برنامجاً اقتصادياً ليبرالياً ترتبط من خلاله مع السوق الرأسمالية العالمية، وتمارس سياسات متخاذلة على المستوى الخارجي والوطني، والأمثلة كثيرة من نظام شاه إيران إلى علمانيي الجيش التركي إلى أنظمة أمريكا اللاتينية التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية وعدد من الأنظمة العربية. حتى أصبحت العلمانية كشعار براق يخفي وراءه جملة من القضايا على رأسها: -1 الديكتاتورية العسكرية. -2 الليبرالية الاقتصادية والتوزيع غير العادل للثروة. -3 سياسات خارجية غير وطنية تضمن التبادل اللامتكافئ مع الغرب وتلعب فيه تلك الأنظمة دور الأداة الذليلة في الصراع مع المعسكر الاشتراكي. لذا فإن العلمانية كشعار منفرد ومجرد تناقضت مع مضمونها التحرري الذي جاءت به الثورة الفرنسية والثورات البرجوازية في بلدان أوربا الغربية ضد حكم الإقطاع وممثله السياسي، الكنيسة، وأكثر من ذلك كانت علمانية الأنظمة الاستبدادية مسبباً أساسياً في تشكل الأصولية والتطرف الديني نتيجة لغياب التمثيل وغياب الحريات السياسية، وأدت إلى وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في العديد من البلدان العربية، فأعطت بالنتيجة مفعولاً معاكساً لجوهر العلمانية من حيث هي فصل الدين عن الدولة وضمان لحرية الاعتقاد..
يُصدّر الإسلام السياسي غربياً اليوم كبديل عن الأنظمة السابقة التي استنفدت كل فرص البقاء في الحكم، وقد وقع الاختيار عليه لجملة من الأسباب التي تسهل استمرار الهيمنة الغربية على المنطقة، فهو من الناحية الإيديولوجية يشكل استمراراً لرد الفعل السلبي على الأنظمة السابقة وعلمانيتها، ويغازل تراث المنطقة وتكوينها الثقافي، وهو يشكل صاعقاً هاماً لتفجير الفوالق على أسس دينية وطائفية وعرقية، ومن الناحية الاقتصادية- الاجتماعية يمتلك أكثر البرامج التي تضمن بقاء جزء كبير من العلاقات اللامتكافئة مع الغرب، ومن الناحية الوطنية كان قد أعطى الغرب الإشارات الكافية لضمان مصالحه وأمن الكيان الصهيوني. بقيت مسألة واحدة ينبغي إنجازها غربياً حتى يتثبت دعمه واعتماده وكيلاً جديداً هي مسألة الحريات السياسية وضرورة تلميعه بهذا الاتجاه، فهو يمتلك تاريخياً سمعة سيئة بهذا الخصوص ليس دولياً فحسب بل شعبياً أيضاً، فلا تزال ذكرى العمليات الإرهابية ضد المدنيين والعسكريين والقوى السياسية الوطنية واليسارية والقومية في سورية ومصر حاضرة شعبياً، لذا كان من الضروري الاستعانة ببعض اليساريين (التائبين) و(المثقفين) الذين بادروا لملاقاة موجة صعود الإسلام السياسي بتبريرهم التعصب الديني والممارسات المتطرفة والمنطق الطائفي والتفتيتي، وقدموا كل رصيدهم وخبراتهم السياسية للإسلام السياسي، وذلك مقابل مشاطرته لقاعدته الجماهيرية التي تفوق قاعدتهم بأضعاف..
وفي ظل التحولات الكبيرة في منطقتنا تسعى مؤقتاً جميع القوى السياسية، ومنها الإسلام السياسي، إلى التخلص من الأطر الحزبية والايديولوجية الضيقة واستبدالها بأطر عامة تحمل دلالات شعبية واسعة وتلجأ إلى تحالفات مع قوى أخرى. ولكن في بلد مثل سورية يعاني الإسلام السياسي من أحادية بالمعنى الطائفي لا تلاؤم الواقع السوري، وعزلة بالمعنى الشعبي نتيجة تاريخه الأسود في أحداث الثمانينيات، لذا نراه حريصاً على تحالفات مع قوى سياسية من حيث الشكل، لكنها تحمل دلالات طائفية من حيث الجوهر، ويتبدى هذا بشكل واضح في تركيبة مجلس إسطنبول، الذي تأكد في أكثر من مرة سيطرة جماعة الإخوان المسلمين عليه، وذلك على لسان أعضاء من الجماعة والمجلس، ولكنه يحتوي في الوقت نفسه على الموزاييك الطائفي الذي يقدم ما يكفي من أوهام الوحدة الوطنية على أسس طائفية وليس على أسس سياسية، والحقيقة أن رجالات الموزاييك الطائفي هؤلاء هم مدعو العلمانية أنفسهم، كرئيس المجلس السابق برهان غليون الذي يبرر صدر الدين البيانوني تقلده رئاسة المجلس في أحد الفيدبوهات المصورة بأنه (واجهة علمانية ضرورية للمجلس)، والقيادي في المجلس جورج صبرا الذي يحمل اسمه وحزبه السياسي الدلالات الكافية لوضعه في هذا المنصب، وعبد الباسط سيدا الذي جاء تعيينه عقب انسحاب القوى السياسية الكردية من المجلس نتيجة الإقصاء والشوفينية التي مورست بحقّهم، يضاف إلى هؤلاء العلمانيين والقوميين واليساريين وشتى أصحاب الألقاب الكبيرة، يضاف لهم أشباه صغار على الأرض يمارسون المقايضات ذاتها مع الإسلام السياسي..
يسعى معتنقو العلمانية هؤلاء إلى تحويلها إلى طائفة جديدة، منبوذة، تعمد أسلوب التحاصص الطائفي، وهو ما يصب فعليا في خانة الإسلام السياسي الذي هو مشروع وبرنامج سياسي، وليس طائفة أو ديناً، هنا يلتقي العلمانيون والإخوان وغيرهم من أبناء هذا المشروع..