إفتتاحية قاسيون العدد 566: الحرب على الحرب

إفتتاحية قاسيون العدد 566: الحرب على الحرب

دخلت الأزمة العميقة والشاملة في سورية طوراً جديداً، فبعد أن بدأت على أساس من التهتك الاقتصادي- الاجتماعي وتطورت نحو توتر اقتصادي وأمني، عادت اليوم لتحمل الجانبين المتأزمين معاً وفي ذروة جديدة تهدد بأخطار كبرى.. ونتيجة لطابعها المركب الاقتصادي- الاجتماعي والأمني، فإن الحلول لا يمكن أن تكون إلا حلولاً مركبة وصادمة تجري من خلال إجراءات سريعة ومباشرة لا تحتمل التأجيل والتسويف، خاصة بعد أن أثبتت الحياة بعد أكثر من عام ونصف أن الحلول الأحادية الجانب الأمنية- العسكرية لا تفعل سوى أنها تعقد الأزمة أكثر وتزيد من تكاليف الخروج منها، ولعل الشهر الأخير، شهر «الحسم والتطهير»، شهر «ساعة الصفر» و«معارك التحرير»، أثبت بما لا يقبل الجدل أن الحل العسكري- الأمني وحيد الجانب، الذي لا يرافقه ويكمله حل سياسي إنما هو قبض للريح على مستوى ذهنية إدارة الأزمة، والأسوأ أنه على أرض الواقع فتح لكل الاحتمالات الخطيرة بما فيها التفتيت.

إن تعقد الأزمة على المستوى السياسي يتطلب إدارة حرب، والهدف من إدارة الحرب ليس تعزيز الحل العسكري وإنما الحل السياسي عبر الحوار، فالسوريون بأكثريتهم الساحقة لا يريدون حلاً يمر عبر العنف والدماء، وعليه فإن أول مهام هذه الإدارة  تأمين الشروط اللازمة للحوار الذي ما يزال في متناول السوريين حتى اليوم لكن لا ضامن لبقائه كذلك إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، وصولاً إلى  تنفيذ برنامج المصالحة الوطنية  ببنوده الأربعة المعروفة - إطلاق سراح المعتقلين ممن لم تتلوث أيديهم بالدم السوري ومحاسبة المسؤولين عن إراقة دماء السوريين وتعويض العائلات المتضررة من العنف ومعالجة ملف المهجرين والمفقودين -

  إن تعقد الأزمة على المستوى الاقتصادي يتطلب أيضاً اقتصاد حرب، يحل التعقيدات المتزايدة للأزمة، ويستلزم التعامل معها بعقلية مركبة معاكسة ومختلفة عن الأنماط التقليدية التي تعتمدها اقتصادات الحرب الخارجية المعروفة من تقشف وتخفيف في الإنفاق في بعض الفروع الاقتصادية لمصلحة القطاعات الحربية، ولكن في الوضع السوري الملموس هنالك حرب على جبهتين: داخلية وخارجية، داخلياً يتطلب تأمين حد معقول من الرضا الاجتماعي من خلال تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطن السوري الذي تُهان كرامته كل يوم بالتوازي مع استمرار الأزمة، بعد أن جرب بالملموس وعانى فعلياً من كل الاشكال والظروف التي مرًّ بها أولئك الذين تتعرض بلادهم لعدوان خارجي وربما تجاوز ذلك نحو الأصعب، وهو إن دل على شيء فعلى جبروت الشعب السوري وقوته، وخير مثال على ذلك ما أدت إليه المعالجة الصحيحة لمشكلة الخبز وتأمينه في فترة تأزم الأوضاع الأمنية في دمشق حيث منعت انفجارات متعددة كانت يمكن أن تؤدي إلى تغير النتائج التي حصلت فعلاً، حيث أعلنت الحكومة السورية مراراً أنه لا يوجد مشكلة في توفر المواد ولكن المشكلة تكمن في طريق إيصالها إلى الناس خاصة في المناطق الساخنة.. وهذا يعني ضرورة تأمين طرق امداد لإيصال المواد إلى حيث يجب.. إن لتأزم الحالة الأمنية وزيادة التوتر هدفاً واضحاً هو شل القطاعات الاقتصادية وتحويل البلاد إلى جزر منفصلة، الأمر الذي سيزيد فعلياً من نسبة تردي الوضع الاقتصادي وما يراكمه من احتقان اجتماعي .. وأصبح واضحاً أن هنالك من يدفع الأمور باتجاه احتقانات وانفجارات جديدة وفوضى شاملة، الأمر الذي يفسح المجال واسعاً أمام   المسلحين المرتبطين بالخارج ومن يدعمهم للتحكم بمصير سورية اللاحق.

إن اقتصاد حرب خاصاً بالظرف السوري يتطلب ليس فقط مراجعة السياسات وإحداث قطع وانعطاف في السياسات الاقتصادية السابقة، بل ويتطلب بالدرجة الاولى حرباً على الفاسدين داخل جهاز الدولة وبناء اقتصاد حقيقي يعتمد عقلية جديدة، عقلية ابداعية قادرة على تقديم الحلول وتنفيذها، و يتطلب ذلك أيضاً أن يوظف الجانب العسكري والأمني - إلى جانب دوره في المعارك على الأرض - من أجل تأمين حاجات الناس الأساسية من تأمين للطرق وتأهيل لخطوط النقل الاستراتيجية وعلى رأسها السكك الحديدية، إن اقتصاد الحرب يتطلب محاسبة العابثين بموارد البلاد بالقسوة نفسها التي يتم التعامل بها مع العابثين بأمن الوطن.